أصبحت (أو أمست) جريدة «الرياض» تخصص منذ فترة قسما تحت عنوان المسكن الميسر. وذكر لي من ذكر أنه سمع عبر احدى الوسائل الاعلامية حديثا لأحد المهندسين طرح فيه آراء تدور حول إمكان خفض تكلفة المساكن كثيرا، ربما إلى نصف السائد في السوق. مثل هذه الطروحات بطبيعتها تلقى هوى لدى الكثيرين، كيف لا وكثير من المواطنين لا تتوفر لديه القدرة المادية على بناء مسكن تكلفته تصل إلى مئات الآلاف من الريالات، كيف لا وكلنا يرغب في الحصول على طيبات الحياة الدنيا بأرخص الأسعار، وكلنا يهوى الحصول على الخدمات بأقل تكلفة ممكنة وبأسرع وقت - إذا نظرنا إلى التكلفة الملموسة، وإلا فإن للوقت نفسه ثمنا.
سألني من أخبرني عن رأيي فيما سمع، فقلت له ألخص لك رأيي بعبارة مشهورة في كتب الاقتصاد «لا غداء مجاني».
No free ٌَِّكو
وعلم الاقتصاد ليس بدعا في هذا، فهناك تعبيرات مشهورة في علوم أخرى مثل عبارة «لا اجتهاد مع النص»، وعبارة « المتهم برئ حتى تثبت إدانته» المعروفتين لدى الشرعيين والقانونيين.
فيما يخص المقولة الاقتصادية السابقة فالمعنى أن لكل شيء ثمنا - ربما باستثناء استنشاق الهواء الطلق - أي أنه لا شيء مجاني، وإن بدا للبعض أنه مجاني فالحقيقة أن هناك من يدفع الثمن، ومن ثم لا معنى لأن يقال خفض تكلفة بدون توضيح وتفصيل بين وبشفافية كيف وقع الخفض، وكما قيل «إذا عرف السبب بطل العجب».
من المهم التأكيد هنا على ثلاثة أمور:
الأول حسابات ومتطلبات الأعمال الإنشائية حسب علمي مثبتة ومقبولة ومعروفة لدى ذوي الاختصاص الهندسي، وليست مجرد اجتهادات ونظريات غير مثبتة.
الثاني أنني لا أعني ولا اتحدث بتاتا عن مشكلة ارتفاع التكلفة بناء على غبن، أو غش، أو جهل، أو مبالغة من المالك من تلقاء نفسه بما يرفع التكلفة، مثل أن يعمق في حفر قواعد البيت أكثر من الحاجة التي يراها ذوي التخصص، ومثل أن يزيد من تلقاء نفسه كمية حديد تسليح الأعمدة المقررة إنشائيا في خرائط منزله. لا شك في أن مشاكل الغبن والغش ومبالغة المالك ونحوها موجودة، وربما بكثرة، ولكنها ليست هي المقصودة عند البحث في قضية خفض التكلفة.
الثالث: لا أعني خفض التكلفة بناء على اختيار مواد أرخص، أو عمال أرخص لأنهم أقل جودة، فهذا شيء معروف لدى عامة الناس.
إذا استبعدت العوامل السابقة، فإن من حقنا أن نسأل عن كيفية وقوع الخفض، طالما أن الأعمال تصمم وتنفذ سليمة ووفق إشراف هندسي مؤهل، ونطلب الافادة بطريقة عقلانية مقبولة علميا.
إن وقع خفض، فإنه - كما يبدو لي- ينشأ بسبب
اتباع طريقة مبتكرة
أو اتباع طريقة غير سائدة
أو تقليل عامل الأمان، بناء على قناعة
العرف العلمي المعرفي أن من عنده شيء من هذا، فإن عليه أن يعرض أبحاثا أو دراسات أمام ذوي الاختصاص الهندسي في مؤتمر أو تجمع علمي أو ينشره في مجلة علمية ونحو ذلك. وعليه إثبات أو تدعيم ما توصل إليه، وذكر محاسنه وعيوبه، ويجب أن يحظى بالقبول.
وبدون ذلك فإن عبارات خفض التكلفة بشكل ملموس هي في الحقيقة:
-إما مثل عبارات «تعلم الانجليزية في خمسة أيام» أو «نقل العفش بثلاثمئة ريال» أو «تمتع بالرشاقة خلال شهر» أي عبارات تدغدغ العواطف ولكنها لا تحمل مضمونا حقيقيا.
- وإما أن تدخل صاحب البناء في مقامرة، وبيان ذلك أن خفض التكلفة عبر التساهل في حساب الكميات وبعض أعمال التنفيذ خاصة الخفي منها، قد لا ينشأ منها ضرر، وقد ينشأ منها ضرر جسيم مستقبلا يكبد المالك خسائر وأضراراً كبيرة، قد تبلغ أضعاف التوفير السابق.
أخيرا أنصح كل من يرغب إقامة سكن أو بناء أن يطلب التفاصيل والأيضاح الكامل في كل عرض يخالف المألوف والمتعارف عليه عند أهل الاختصاص، كما أنصحه أن يطلب رأيا آخر، للاستئناس، حتى لا يكون مبناه موضع تجارب، ولات حين مناص، وأما من جهة المصمم والمشرف على التنفيذ، فإن الأمانة تقتضي منه أن يحيط المالك علما وبتفصيل وشفافية عن أي رأي أو عمل يخرج عن المألوف المتعارف عليه، وبالله التوفيق.
٭ باحث في الاقتصاد الكلي والمالية والسياسات العامة
التعليقات