تحديد أولويات صارمة:

طيلة العام (أوقات الإبحار السلس) تتجه الدوائر القضائية نحو تطبيق الكثير من الأفكار، ربما طبقت بالجملة خصوصاً في محاولة الوصول لأفضل طريقة في تقسيم القضايا على الأعضاء، وإدارة الجلسات، وهذا ما يؤدي إلى فقدانها الإحساس بالأولويات، وعدم التنبه للإنتاجية والأهداف الكبرى، وكل هذا يعني غياب التركيز عن (20%) من الأنشطة، التي يمكنها إحراز ( 80%) من النتائج.

والأصل أن الدوائر القضائية في أوقات الأزمات، أو أوقات الضغط (بقاء التشكيل كما هو، أو تعديله تعديلاً جزئياً، أو تغيير رئيس الدائرة) تتجه إلى تكوين أسلوب إداري (قد ينهض به في بعض الأحوال قاض واحد، رئيس الدائرة، أو من ينيبه، أو قاض مبادر) يعيد ترتيب التحركات العملية، وانتقاء الأفكار المناسبة، التي تتلاءم مع طبيعة العمل القضائي، وما ترى الدائرة نفسها عليه في المستقبل، (والكلام هنا عن المستقبل القريب)، أما إن مرت تلك الأوقات دون أن يتم ذلك فستبقى الدوائر القضائية، في بحر متلاطم مهما أبحرت فيه، فإنها لن تعدم الخير إلا أنها ستبقى في مكانها القديم، تسيطر عليها نفس الروح، وتخيم عليها الرتابة بكل أطيافها، (وسنجد لديها سيلاً من القضايا قابع بين أعضائها لمدد متطاولة رغم النطق بأحكامها، ومن هنا فلا لوم على المتأمل لو أدرج تلك القضايا في تشكيل الدائرة).

نصب الرافعات:

تحيط بالدائرة القضائية الخارقة العديد من الدوائر القضائية، إضافة للنظرة الإجمالية لها، التي ترسمها عن نفسها بأنها طاقة من الموارد البشرية والفكرية تكفيها للنجاح.

والدائرة القضائية الخارقة بارعة في استثمار جميع أعضائها، ورئيس محكمتها، وإشراك أعضائها في اللجان الخاصة بالمؤسسة القضائية التي تُظلها، فضلاً عن التنقيب في خبرة أعضائها قبل التحاقهم بالسلك القضائي، وأقلها ما لديهم من معرفة علمية، ومهارات فنية، وكل ذلك هو في حقيقته شبكة من الموارد (داخلياً وخارجياً) لازمة للنجاح، وهي ما يمكن تشبيهها برافعات المباني.

أن ما يميز تلك الدائرة القضائية ليس وجود تلك الموارد (وحدها) لدعمها بكل قدرتها على الاستفادة والتعلم منها إلى أقصى حد، بل امتزاجها الذي يتكون مع مرور الوقت ويجعل أعضائها يدركون أن الدائرة ما هي إلا ميدان خبرة تطبيقية في كثير من المجالات القضائية والإدارية.

جامعة الأوقات الصعبة:

الدائرة القضائية الخارقة مرت ولا تزال بالكثير من الأوقات الصعبة على تنوع مواقع الألم التي تصاب بها ومع ذلك وبتوفيق من الله مرت تلك الدائرة واجتازت تلك الأزمات بنجاح بل بتفوق، وعادت من جديد بروح متفائلة، وعزيمة متضاعفة، ويكفينا مثلاً على ذلك قلة الموظفين، وضعف الشعور بالمسؤولية في الموجود منهم، وتركيز بعضهم على افتعال الصراعات الداخلية من أدنى خطأ أو أقل تقصير، ونهايةً بتقاذف المهام الإدارية، والتملص من اعتبارها واجبات وظيفية.

هذا المرور الضيق من عنق الزجاجة ليس هو الميزة القوية لتلك الدائرة القضائية الخارقة، وإنما الكيفية التي وظفت بها الدائرة تلك الأوقات في التكيف، وتعلم كيفية إعادة ترتيب الأفكار، والأعجب من ذلك أن بعض تلك الأوقات، والظروف الصعبة، كانت ميداناً للإبداع، واصطياد الأفكار الجديدة.

هذا الجانب مدرسة للدوائر القضائية التي تعيش في ساحة أمان أوسع، ودائرة رخاء أرحب.

مفاتيح التميز والتتويج في تلك الدائرة القضائية:

من أهم المفاتيح التي عرفتها في تلك الدائرة:

  1. القضايا أولاً: فالدائرة وجدت أساساً لنظرها، وغياب هذا الاهتمام يعني التفاف أعضاء الدائرة مهما كانت مواهبهم، نحو ما يدور في أوساط الدوائر القضائية والبيئة القضائية بوجه عام وهو غير خاف على الجميع وهي في نهاية المطاف تعني حركة جوفاء للعمل.

  2. تجنب التعامل مع الرئيس على أنه معصوم: فمعظم الدوائر القضائية يرأسها الكثير من كبار القضاة المتمرسين الذين لهم باع طويل من الخبرة والتجربة وتلك ميزة قد تؤثر سلباً على عدد ممن تحتهم (حتى وإن كانوا قضاة)، وهذا التأثير يتجلى في صور مختلفة أبرزها الموافقة المطلقة دون سؤال أو استفسار، إلا أن قائد تلك الدائرة كبقية القادة الناجحين يراها مصدر خطر، ولهذا تجده دائماً يستمع للعاملين فيها (قضاة وموظفين مهما دنى موقعهم) وعندها تصدر منه الرؤية ليست مقنعة للجميع فحسب، بل ومؤيدة أيضاً.

  3. عدم تحويل الولاء إلى عبء: بعض من القضاة بدأ رحلة عمله من غابر الزمن، وبعد تلك المدة لا يزال غير قاد على المسير قدماً في رحلة الإنجاز، الذي اتخذت منها الدائرة شعاراً لها، مع الجهود الكبيرة التي يبذلها قائد الدائرة لتحفيزه، ومن هنا فإن عدداً من رؤساء الدوائر يتأخرون في اتخاذ القرار الحاسم (بالاستبعاد من التشكيل) والذي يصب في مصلحة الدائرة القضائية بل قد يجد لهم بعض الرؤساء أعذاراً بدافع الولاء، وهو في الحقيقة عبء يُحمل على القاضي، وكل هذا لا يقدح في صدق القاضي وحبه للخير.

  4. التركيز على المنتج (الأحكام القضائية): فأحكامها هي مصدر لتميزها على بقية الدوائر القضائية على امتداد مؤسستها القضائية، ومن هنا فأحكامها تتحلى بجودة عالية في الصياغة والسبك، ودقة في استخدام المصطلحات، وسلاسةٍ في العرض، وقوة في بيان الحجة، وتسلسلٍ في التسبيب، واهتمام فائق بسلامة اللغة والإملاء، إضافة إلى العناية الفنية بإخراج نسخة إعلام الحكم، وجودة طباعته، والدائرة القضائية لهذه الغاية تحتفظ بأعضائها المجتهدين، وتستمتع بطعم النجاح، وتستفيد من خبرات ومهارة أعضائها الذين يضعون مصلحة الدائرة وفريقها، والأهداف العامة للمؤسسة القضائية فوق المصالح الشخصية، وبعد كل ذلك تجتهد في البحث عن خطط عملية من شأنها تحقيق نتائج أفضل.

  5. ترسيخ التعاون: فالتعاون البناء يتيح الفرصة لجميع أعضاء الدائرة القضائية أن يتحدوا ويركزوا جهودهم لتحقيق النجاح، ولهذا فتبادل المعلومات بين الأعضاء يتم بأسلوب سهل وميسر يحس من خلاله الجميع بالاشتراك في تعلم شيء أو تحقيق إنجاز إضافي، بإرساء مبدأ قضائي جديد، أو إيجاد حل اجتهادي فقهي أو نظامي، (كحكم في قضية لا سوابق لها).

أخيراً: أمانة يسجلها التاريخ أني:

(أعرف تلك الدائرة القضائية الخارقة، معرفة تامة، ولم يكن حديثي عنها نسجاً من الخيال !!! إنها الدائرة الأولى بالمحكمة الإدارية بجدة، التي كان يرأسها وكيل وزارة العدل الحالي الشيخ عبداللطيف الحارثي، شرفت بالعمل فيها قرابة السنتين، وكانت بحق المدخل الحقيقي القوي لي ولسواي إلى مدارج سلم السلك القضائي

  • . قاضي و رئيس الدائرة السادسة بالمحكمة الإدارية بمكة المكرمة