ينهض التنظيم القضائي في المملكة على ركيزتين أساسيتين هما القضاء العام (أو ما جرى العرف على تسميته بالمحاكم الشرعية) وقضاء ديوان المظالم المشرف على المحاكم الإدارية (القضاء الإداري) .

ويضطلع الأول ويبسط ولايته على جميع المنازعات التي ترفع إليه من جانب الأفراد، بينما يستقل القضاء الإداري بالمنازعات ذات الصبغة الإدارية التي ترفع من أو على الجهات الإدارية بمناسبة عملها المرفقي العام.

وبين هذين التنظيمين الرئيسين يوجد العديد من الجهات ذات الطبيعة الخاصة، التي عهد إليها ولي الأمر بموجب أوامر أو مراسيم بالفصل في منازعات محددة بصفة استثنائية، وهي ما تعرف باللجان، والتي تنقسم بدورها إلى لجان إدارية بحتة ولجان شبه قضائية.

ولا شك أن تلك اللجان (شبه القضائية) وهي لجان إدارية تمارس عملاً قضائياً بالنظر في منازعات محددة وفق إجراءات استثنائية، تعد خطوة مهمة للتأسيس لفكرة القضاء النوعي المتخصص، إلا أن النقد المتزايد لآلية عمل تلك اللجان والذي يصل حد المطالبة بنقل اختصاصاتها إلى محاكم متخصصة بالمفهوم التقليدي المتعارف عليه، للاستفادة من الضمانات القضائية المتصلة بالتخصص الدقيق في فقه التقاضي، وعدم إهدار مبدأ التقاضي على درجتين، وعدم التداخل بين العمل القضائي والعمل التنفيذي، وإسباغ الحجية على القرارات التي تصدرها ونفاذها داخل المملكة وخارجها، يجعل تدارك أسباب هذا النقد أمراً مطلوباً.

ولعل الجدل الذي يثار بين الحين والآخر حول عمل تلك اللجان يثار بمناسبة تناول أحكام ثلاث لجان بعينها وهي لجنة تسوية المنازعات المصرفية، لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية، لجنة الفصل في منازعات الأوراق التجارية.

وتجدر الملاحظة إلى أن تلك اللجان تشترك في بعض السمات الأساسية ومنها:

1 التبعية: هي لجان تابعة لإدارات حكومية تنفيذية كمؤسسة النقد العربي السعودي، وهيئة سوق المال، وزارة التجارة والصناعة.

2 التشكيل: حيث تشكل كل هذه اللجان من عناصر فنية إدارية وقانونية من خارج الوسط القضائي.

3 الإجراءات: تخضع الإجراءات أمام بعض تلك اللجان لشروط شكلية خاصة كالرفع أولاً إلى جهة إدارية لتتولى الأخيرة الإحالة إلى تلك اللجان، كما الحال في شأن لجنة تسوية المنازعات المصرفية، حيث يتم الرفع عن تلك القضايا لديوان رئاسة مجلس الوزراء قبل نظرها من قبل اللجنة، وذلك إعمالا للمادة السادسة من الأمر السامي رقم 729/8 وتاريخ 10/7/1408 ه.

4 الاستئناف وقطعية القرارات: تصدر قرارات بعض تلك اللجان مشمولة بالنفاذ المعجل وبلا كفالة ولا يترتب على التظلم من تلك القرارات أمام الجهة الإدارية الأعلى وقف تنفيذها كما في لجنة الفصل في منازعات الأوراق التجارية .

5 الاستقلالية: تجمع بعض اللجان بين مهمة الادعاء والمحاكمة والتنفيذ في ذات الوقت وهو ما ينتقص من مبدأ استقلالية تلك اللجان .

6 الحجية: لا تحظى قرارات تلك اللجان بالحجية التي تتمتع بها الأحكام القضائية حال الرغبة في تنفيذها خارج المملكة بالنظر إلى ما يصدر عنها وفقاً للتصنيف الوطني بالخارج باعتبارها قرارات إدارية وليست أحكاماً بما يحول دون تنفيذ قراراتها خارج المملكة وهو ما يعرض مصالح بعض المؤسسات الوطنية لخطر الضياع.

ولاشك أن توحيد الجهات التنظيمية المنشئة لتلك اللجان، وإسباغ الطابع القضائي عليها من حيث التشكيل، ومنظومة العمل، والإجراءات حتى صدور الأحكام وحيازها صفة القطعية، بلا إهدار للمبادئ القضائية العامة هو ما كان لدى ولي الأمر - وفّقه الله -كهدف حينما أصدر بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/79 في 19/9/1428ه لتنظيم مرفق القضاء، لتكون له الولاية العامة على جميع المنازعات التي تنشأ بين شخوص المجتمع طبيعيين أو اعتباريين، وفق قواعد شرعية عامة ومجردة تتوخى العدل، وتسعى إلى إقراره بين المتخاصمين، بعد تهيئة مراكز شرعية متساوية أمام القضاء، فكان استحداث المحاكم المتخصصة التى يتولى الفصل فيها بين الخصوم قضاة متخصصون، وفق قواعد محددة، وتكون أحكامها ابتدائية قابلة للطعن عليها أمام محاكم الاستئناف، حتى تكون أدنى إلى الحقيقة، مع إقرار المحكمة العليا لتتولى الرقابة على حسن تطبيق الأنظمة الشرعية وعدم الافتئات عليها، مع الإشراف القضائي بواسطة قضاة التنفيذ على تنفيذ ما يصدر من أحكام.

وعليه لم يبق إلا تفعيل ذلك النظام المذكور، وهذا ما ننتظره من اهتمام ومتابعة لمعالي وزير العدل ومعالي رئيس المجلس الأعلى للقضاء، ولما في ذلك من سد الذرائع على الطاعنين والمرتابين من وضع هذه اللجان ذات الارتباط العدلي في المملكة، ولما في ذلك من حفظ وضمان حقوق المتخاصمين وإبراء لذمة أعضاء تلك اللجان، وتعزيزاً لمبدأ التخصص في القضاء السعودي وسرعة البت في القضايا.

والله من وراء القصد .