كان صوت الخصخصة عالياً ومجلجلاً إبان الفترة التي كان الدخل الوطني فيها متأثراً بانخفاض أسعار البترول وفيها كانت المملكة تمر بأزمات مالية متعددة، لكن هذا الصوت يكاد يختفي عندما ارتفعت مداخيل البلد بارتفاع أسعار البترول وأصبحت الدولة قادرة على الإنفاق بسخاء. ربما كانت التجربة الوحيدة الملموسة في هذا الشأن هي تخصيص قطاع الاتصالات الهاتفية وبعدها توقفت مشاريع الخصخصة الكبرى، وكأننا ربطنا الخصخصة بمدى توفر السيولة المالية للدولة، وليس بخطة وطنية شاملة يجب تطبيقها وفق جدول زمني واضح ورؤية لا تتغير بمجرد تغير أسعار النفط.

الغريب ليس في تجمد عجلة التخصيص وعدم وضوح خططه، بل في التوجه نحو استحداث طريقة جديدة تسمى تخصيصاً، وهي تكاد تكون ضد التخصيص المراد. وتتمثل في إنشاء شركات تتبع للقطاعات الحكومية، فكل وزارة أو جهة حكومية تريد أن تستحدث شركة قابضة تتولى هي زمام إدارتها ويرأس المسؤول الأول مجلس إدارتها.

نحن لا نريد تسمية شركة بذاتها، لكن بصفة عامة هذه الشركات تمتاز أو ستصل إلى المظاهر السلبية التالية:

أولاً: هذه الشركات تتحول إلى باب محسوبيات بين مسؤولي الوزارة أو القطاع المعني بها، حيث يتم تعيين الأفراد المرغوب فيهم على وظائف بتلك الشركات برواتب ضخمة وعالية، رغم أن بعضهم يعمل أو كان يعمل على ملاك الجهة الحكومية ذاتها. بمعنى آخر أصبحت هذه الشركات باباً لتجاوز النظام التوظيفي الحكومي. البعض يراها حلاً لجمود نظام التوظيف الذي لا يمكن القطاعات الحكومية من استقطاب الأفضل، لكن السؤال لماذا نلتف على النظام بدلاً من إصلاحه؟ وهل فعلاً اُستقطب الأفضل أم أن ما حدث هو نقل بعض موظفي الجهة الحكومية إلى الشركة، وبالتالي عدم وجود فكر جديد يميز الشركة عن ما هو موجود بالوزارة أو القطاع الحكومي.

ثانياً: طالما الشركة يرأس إدارتها رئيس الجهاز الحكومي وموظفوها وتمويلها عن طريق الحكومي، فهذا يعني استئثارها بمشاريع القطاع الحكومي. وهذا لا يتفق مع فكر التخصيص المبني على المنافسة وحرية السوق و يقود إلى نوع من الاحتكار المستقبلي لبعض المشاريع الحكومية. هذا الأمر ستفرضه طبيعة توافق المصالح وتعارضها، حتى لو ادعى البعض قدرته على ضبطه.

ثالثاً: تلك الشركات أصبحت تؤسس عن طريق الدولة دون وجود آليات واضحة في نقل ملكيتها وأسهمها أو تحويلها إلى شركات مساهمة مستقبلاً لمشاركة المواطن والقطاع الخاص في ملكيتها وإدارتها، كما يفترض أن تكون عليه عملية الخصخصة.

رابعاً: تلك الشركات لم تؤسس للقيام بأعمال لا يستطيع القطاع الخاص القيام بها، مثل ما حدث في إنشاء سابك حيث أعمالها فوق طاقة وقدرات القطاع الخاص، إبان إنشائها، بل هي تقوم بأعمال يجيد القطاع الخاص القيام بها بكفاءة مثل بناء مشاريع تعليمية أو توريد أدوية أو غيرها من الأعمال.

خامساً، تلك الشركات الجديدة تعاني أو ستعاني ضعف النظام المحاسبي والرقابي الشفاف بها، حيث إن المرجع الحكومي بحكم مرجعية الشركة إليه لن يكون محايداً في تقييم أعمالها ومحاسبة مسؤوليها، وسيهمه عدم كشف أي تجاوزات بها.

إذا نحن بحاجة إلى وضوح الرؤية في موضوع الخصخصة والسؤال عن مسببات تعثر المشروع كتوجه إستراتيجي للدولة وكذلك نحن بحاجة إلى مناقشة هذا التوجه المتمثل في إنشاء شركات قابضة حكومية، ووضع الضوابط المناسبة له في حال الإصرار عليه، حتى لا تشكل تلك الشركات ثغرة سلبية في التنظيم الإداري تضاد مشروع الخصخصة وتعطل نموه، ولا تحقق التطوير المنشود.