يرى مؤلفا كتاب «انتحار الغرب» ان الفترة الأكثر اعتماماً وتشاؤماً في تاريخ البشرية قد تكون هي المائة وخمسون عاماً الأخيرة، ومرد ذلك في نظرهما إلى نظريات وكشوفات علمي النفس والأحياء. ويبدو لي ان الفيزياء اليوم مرشحة لتكون عاملاً ثالثاً مساهماً في أحزان المؤمنين القابضين على الجمر والأساقفة ورجال الدين الذين يذودون رعاياهم وأتباعهم عن التبعات الخطيرة للأفكار الجديدة لعالم الفيزياء النظرية البريطاني ستيفن هوكنج في كتابه الجديد «التصميم العظيم» الذي صدر الأسبوع الماضي.
معظم الأفكار الفلسفية الكبرى التي غيرت تاريخ البشرية في الألفي سنة الماضية نبعت من أبناء إبراهيم، وان الحضارة الأوروبية الحديثة هي التي صنعت عالمنا المعاصر المنفتح والمتعدد الثقافات
ومع أن الأفكار الكبيرة التي نفثها ذلك العقل الجميل هي في طور النقاش بين زملائه، وأثارت جدلاً بين مخالفيه وأصبحت مهبطاً للعنات والسخرية عند آخرين، إلاّ ان دويها المجلجل سيبقى لفترة طويلة يحفر في العقول والقلوب المطمئنة المؤمنة يزعجها ويقلق راحتها وينفث الوساوس في خباياها.
ليس غريباً ان رجال الدين الذين نقلت وسائل الإعلام تصريحاتهم الرافضة لنظرية هوكنج عن كيفية تشكل الكون، هم مسلمون ومسيحيون، ومن المؤمنين بالقرآن والتوراة والإنجيل، أي أتباع الديانات التوحيدية الثلاث.
كان فرويد قد أشار إلى أنه على البشرية تحمل ثلاث صفعات وقحة وجهها العلم لكرامة الإنسان ونظرته النرجسية لمنزلته بين الكائنات. وقد تزامن ذلك مع بلوغ الالحاد ذروته بين العلماء والفلاسفة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد كانت بواكيره تتنامى قبل الثورة الفرنسية بعقود وبعد تقهقر الكنيسة في عصر الكشوفات وثورة العلوم والمعارف والعقائد الجذلة بالإيمان بالعلم مخلصاً وسبباً للسعادة والرفاه وطريقاً وحيداً لشفاء البشرية من الآلام.
وكما هو واضح من عشرات التعليقات من قبل العلماء ورجال الدين والمثقفين، فإن ما قصده هوكنج حول الخالق وصانع الكون في كتابه الأخير، هو تصور مختلف تماماً عن عقائد المؤمنين في الديانات الثلاث، ولكنه في الحقيقة ينال من صلب عقائد مؤمنيها لأن المعنيين بالقلق من نتائج نظريته هم أبناء إبراهيم وحدهم من دون غيرهم.
في القرنين الأخيرين كان التحول الحضاري والفلسفي والعلمي ينال أسس هذه الديانات، وأما العقائد والملل الأخرى فلطبيعتها وسمتها غير التبشيرية، واختلافها الجوهري وتجاوبها الخامل والكسول مساعداً في تقهقرها وانكماشها عن الحياة العامة من جهة، ولقدرة معتنقيها على الاندماج مع رياح الحداثة والتغيرات الهائلة والمواءمة بين تلك التقاليد والطقوس الخاصة وعالمهم المتغير.
قوبل كل من النصرانية والإسلام بترحيب وانتشار كبير بين بعض الأمم الوثنية، فالإسلام منذ بزوغه في عصره الزاهر تمدد شرقاً وجنوباً واستقر في شمال أفريقيا، وأما المسيحية فمنذ القرن الخامس عشر وبعد اكتشاف العالم الجديد في الأمريكتين واستعمار جنوب شرقي آسيا تمكنت من ضم ملايين المؤمنين الجدد.
ولكن كلتا الديانتين الإسلام والمسيحية لم تلقيا شعبية بين أتباع حضارتين عظيمتين وهما الصين واليابان، خلافاً لشعوب جنوب شرقي آسيا مثل الفلبين وأندونيسيا. يمكن تفسير سبب ذلك بالشعور العالي بالتفوق والانكماش على الذات والحفاظ على النقاء عند اليابانيين، فقد استأصلوا الآلاف من إخوانهم الذين اعتنقوا المسيحية في القرن السادس عشر على يد التجار والغزاة الأوروبيين، وللحظة تاريخية كالومضة برزت عند اليابانيين قرون استعمارية وتطلع إلى التمدد، ثم انكمشوا وذلك يعود لسببين في نظري، أحدهما ثانوي عارض وهو اندحارهم في الحربين العالميتين، والسبب الرئيس هو البصمة الثقافية اللازمة التي ميزت هذه الأمة التي تحتاج ربما إلى قرون من التغيير وإعادة التشكيل والاختراق والتهجين حتى تكتسب روحاً وسمة استعمارية راسخة تعاود الحياة مع كل موجة إفاقة ونهوض حضاري، كما هو الحال في الحضارية الغربية والإسلامية.
حتى هذا اليوم ينظر إلى اليابانيين على أنهم من أقل الشعوب اندماجاً وتقبلاً لغيرهم، رغم التقدم العلمي والتقني الهائل الذي عاشته اليابان منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. وقبل أسبوعين أذاعت قناة الجزيرة تقريراً عن العزلة والنبذ الذي يشعر به اليابانيون المتزوجون من أجنبيات، ومع ان اليابانيين والصينيين يتبعون الطاوية والشنتوية والكونفوشيوسية، إلاّ ان تمنع هذه الشعوب على اعتناق المسيحية والإسلام قد يعود إلى جينات ثقافية تضافرت في تشكلها عوامل متعددة، مما يعني ان مزاج أمة ما وطريقة تفكيرها وثقافتها العريقة الضاربة في القدم قد تكون سبباً رئيساً في مناعتها ضد تقبل ديانة أخرى وافدة من فضاء حضاري آخر لا يوجد بينها وبينه أي قواسم مشتركة. يمكنني القول أيضاً إن الصينيين يتشاركون مع اليابانيين في صفة أخرى، فالصينيون قد شهدوا فترة مزدهرة من تاريخهم في القرن الخامس عشر، وطمحوا إلى ان يكونوا سادة البحار وجابت سفنهم المحيطات تحمل البضائع وتزاول التجارة مع شعوب الشرق الأوسط وغيرها. ولكنهم انكمشوا مرة أخرى، وتزامن ذلك مع الكشوفات الجغرافية وعصر النهضة.
لقد حكم المسلمون الهند قروناً عديدة وأسهمت سطوة الثقافة والديانة الإسلامية في ولادة السيخية في القرن الخامس عشر، ومع اعتناق فئة قليلة للإسلام إلاّ ان الهندوسية بقيت صلبة ولم تتزحزح وربما يعود ذلك إلى نظام الطوائف والطبقية التي يراها بعض علماء الاجتماع الأكثر تماسكاً وانغلاقاً بين ثقافات شعوب الأرض حتى البدائية منها، وللمصالح المرتبطة ببقاء هذا النظام عند الفئات المتفوقة والمستفيدة. أي ان نظام الطبقات المغلق هو الذي سمح للهندوسية بالبقاء والصمود. وقد سعت الحكومات الهندية منذ الاستقلال إلى تمكين الطبقات المنبوذة ومساعدة أبنائها وتوفير فرص التعليم والوظائف لهم، إلاّ ان نظام الطوائف لا يزال متماسكاً ونافذاً.
هل كانت الحضارة الفارسية أقل مناعة من الحضارات السالفة، ولهذا دانت أراضيها الشاسعة والغالبية الساحقة من شعوبها بالإسلام؟
الجواب في نظري لا ونعم. لا، لأنها حضارة عريقة بآدابها وفنونها وفلسفاتها ودياناتها، ولهذا مهما خضعت لسيادة حضارة أخرى متفوقة عسكرياً فلن يكون من السهل ذوبانها فيها، وأما الجواب بنعم فلأن الفرس كانوا في المجال الجغرافي والحضاري لمهد الديانات الابراهيمية، فقد كانوا متاخمين وملاصقين لجزيرة العرب مهد الإسلام. كان للفرس صفة أخرى وهي التوسع والتمدد المشوب بكبرياء وشعور طاغ بالتفوق، وعبر التاريخ كانت الثقافات والحضارات المتطلعة إلى التوسع الجغرافي والبشري هي الأكثر انفتاحاً على الثقافات الأخرى. ولهذا فمن يقرأ بشكل عابر تاريخ مكة والحجاز قبل بعثة الرسول وبعد رسالته سيرى ان هذه البقعة الصحراوية التي انبثق منها الإسلام كانت منفتحة وقابلة لهضم كل ما يفد إليها وقادرة على التعايش معه ومجاورته.
اخضع الإسلام الامبراطورية الفارسية وأزالها من الخارطة، ولكن الفرس صبغوا الحضارة الإسلامية بالروح التي تجلت في كل العلوم الإسلامية.
بعد كل هذا أصل إلى ما أريد ان اختم به، وهو ان معظم الأفكار الفلسفية الكبرى التي غيرت تاريخ البشرية في الألفي سنة الماضية نبعت من أبناء إبراهيم، وان الحضارة الأوروبية الحديثة هي التي صنعت عالمنا المعاصر المنفتح والمتعدد الثقافات والمتنوع إلى الحد الذي تسبب في تهديد مكانتها وبروز منافسين لها وانحسار نفوذها، ومن هذه الحضارة ذات الجذور المسيحية الأسيفة والمتألمة المعذبة ولدت الفلسفات والرؤى الكبرى التي تضرب في العمق أقدس ما عند البشر، وان هذا الزخم الهائل والدفق المجلجل هو صفة لازمة لهذه الحضارة، خلافاً لحضارات الشرق الأقصى التي كانت على الدوام ذات ديانات خاملة وثقافات منكمشة وفلسفات لم يكن لها يوماً علاقة بالسماء، ولكنها لطئت بأرضها آلاف السنين، وهذا هو فرق ما بين ستيفن هوكنج المقعد المشلول وأفكاره حول الخالق وبين كونفوشيوس.
1
محمد الصالح - الطائف
2010-09-13 08:24:57ستيفن هوكنج ! قصته عجيبه رغم اعاقته الشديده و عدم قدرته على الكتابة او النطق ولا حتى الحركة لازال له نظريات في الكون و الفيزياء.
سبحانه يضع سره فى أضعف خلقه !!
2
أبو ريان 2010
2010-09-12 23:11:08(ومن المؤمنين بالقرآن والتوراة والإنجيل، أي أتباع الديانات التوحيدية الثلاث) المسيحية كانت في أصلها دين سماوي توحيدي لكن الآن بعد التحريف صارت تشرك المسيح و روح القدس بالالوهية تعالى الله عما يقولون ,,
ستيفن هوكنج قصته عجيبه رغم اعاقته الشديده و عدم قدرته على الكتابة او النطق ولا حتى الحركة لازال له نظريات في الكون و الفيزياء اسأل الله ان يهديه للإسلام
3
وليد محمد
2010-09-12 21:20:35هل الاسلام منع الاخذ بأسباب العلم والتفوق ؟
أم هو الضعف الذي نشعر به أمام التطور المادي للغرب ؟!
أم هو كره للمجتمع المحافظ بسبب انغلاق سابق وحياة متشددة ؟
أم هي الحيرة والتخبط ؟
أم هو التأثر بكل ما جاء به أصحاب العيون الزرقاء ؟
4
ليلى العامري
2010-09-12 19:57:59كل الشكر لك أستاذ منصور على مجهودك الجميل و كتاباتك الراقية، ولكن " فضلا ً وليس أمرا ً ! " أتمنى أن تحاول من تقصير الكتابات إن أمكن.. ففي عصر السرعه أصبحنا نهيم على الكتابات القصيرة ذات المعاني الكبيرة.. وذلك لنتشوق أكثر لقراءة المزيد من إبداعاتك التي تشكر عليها
تحياتي لك ^_^
5
HamedMoha
2010-09-12 16:44:03مقال جميل
فقد أصبح الالحاد صفة ملازمة لهذه الحضارة الجديدة الذي لم يكن موجوداً في أي من الحضارات السابقة
ومقالك هذا ذكرني ببحث غريب قرأته قبل بضع سنوات يقول فيه أن الالحاد هو (المسيح الدجال)...
أظن أن البحث موجود في الانترنت
6
لا تقارن نفسك بأحد لانك تظلمها
2010-09-12 16:42:51شكرآ اخي منصور النقيدان
نتمنى ان تكون خير خلف لخير سلف ( للعقول النيره فقط )
7
فهاد
2010-09-12 15:22:37كلامك ذات مغزى واضح وهو ( أن ابناء ابراهيم لم يجلبوا التطور بينما الغرب الملحد الذي نرفضه هو من جعل حياتنا أسعد وأفضل ).. لماذا كل هذا الكلام الطويل لكي توصل لنا هذه الرسالة...!!
8
سلمان
2010-09-12 14:57:10اي امبراطورية او كلام رنان او ديانة في النهاية مجموعة اشخاص. وكل شخص له تأثيره. اذا تمكنت مجموعة طغت, واذا طغت, حفزت مجموعات ثانية انها تتمكن وتنشر ثقافتها وتستقطب بسهولة. طغيان الفرس والرومان حفز الامويين. وطغيان الامويين حفز العباسيين. وطغيان العباسيين حفز غيرهم.
9
أرض السلام
2010-09-12 14:02:49نعم... اعتقد ان صناعة خلية من العدم ونظرية ستيفن هوكنغ في كتابة الجديد.. راح تشكل حضارة وثقافة جديدة لا تظهر ملامحها الحقيقية الا بعد سنين طووويلة.. ومن خلال هذة العلوم قد تنشىء شعوب تؤمن بهذة التغيرات التاريخية. وتعيش عليها.
تحليل رائع جدا للتاريخ شكرا استاذ منصور
10
ابو طارق وتميم
2010-09-12 12:40:17ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء.
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر... إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا..
الجواب الواضح لهوكنج ومن تبعه ومن سبقه هو في القرآن الكريم.. ولكن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..
وحتى تقوم القيامة سيكون هنالك مؤمنون وكافرون.. منافقون ومتقون.. واضحون وغامضون.. مذبذون وثابتون
11
المطمئن
2010-09-12 12:18:30موضوعياياأستاذ فانه كان ينبغي لك عدم اغفال السياق الثقافي العام الذي يعمل ضمنه الرجل والوضع الصحي الذي يعانيه ودعك من انبهار الأوساط التي احتفلت بالنظرية فلذلك حديث يطول وطالما احتفل القوم بأشخاص ونظريات ثم تبين للجميع لاحقا أنهم كانوا وكانت مجرد أشخاص ومجرد نظريات..ودعك من الابراهميةFor Now..!
12
خالد
2010-09-12 11:39:43اتمنى قرائة كتاب :
القرآن والتوراة والإنجيل والعلم.. دراسة الكتب
المقدسة في ضوء المعارف الحديثة
للعالم موريس بوكاي
13
مقرن
2010-09-12 11:09:00هذه افاده مقيم من الجنسية الهندية.
في الهند اهم اسباب الانغلاق الطائفي. هو نظام الطوائف والطبقية الحكومي.
بحيث يذكر "اسم الديانه" في هوية كل مواطن هندي "مسلم.هنوسي.سيخي...اخ.