قال الجاحظ

قال معبد: نزلنا دار الكندي أكثر من سنة، نروج له الكراء، ونقضي له الحوائج، ونفي له بالشرط.

قلت: قد فهمت ترويج الكراء، وقضاء الحوائج، فما معنى الوفاء بالشرط؟

قال: في شرطه على السكان أن يكون له روث الدابة، وبعر الشاة، ونشوار العلوفة، وألا يخرجوا عظما، ولا يخرجوا كساحة، وأن يكون له نوى التمر، وقشور الرمان، والغرفة من كل قدر تطبخ للحبلى في بيته! وكان في ذلك يتنزل عليهم فكانوا لطيبه، وافراط بخله، وحسن حديثه، يحتملون ذلك.

قال معبد: فبينا أنا كذلك، إذ قدم ابن عم لي ومعه ابن له، إذا رقعة منه قد جاءتني: «إن كان مقام هذين القادمين ليلة أو ليلتين احتملنا ذلك، وإن كان إطماع السكان في الليلة الواحدة يجر علينا الطمع في الليالي الكثيرة».

فكتبت اليه: «ليس مقامهما عندنا إلا شهراً أو نحوه».

فكتب إلى: «إن دارك بثلاثين درهماً، وأنتم ستة، لكل رأس خمسة، فإذ قد زدت رجلين، فلابد من زيادة خمستين، فالدار عليك من يومك هذا بأربعين!

فكتبت اليه: «وما يضرك من مقامهما، وثقل أبدانهما على الأرض التي تحمل الجبال، وثقل مؤنتهما على دونك؟ فاكتب إلي بعذرك لأعرفه».

ولم أدر أني أهجم على ما هجمت، وأني أقع منه فيما وقعت! فكتب إلي:

«الخصال التي تدعوا إلى ذلك كثيرة، وهي قائمة معروفة: من ذلك سرعة امتلاء البالوعة، وما تنقيتها من شدة المؤنة، ومن ذلك أن الأقدام إذا كثرت، كثر المشي على ظهور السطوح الطينة، وعلى أرض البيوت المجصصة، والصعود على الدرج الكثيرة: فينقشر لذلك الطين، وينقلع الجص، وينكسر العتب، مع انثناء الأجذاع، لكثرة الوطء، وتكسرها لفرط الثقل!.

«وإذا كثر الدخول والخروج، والفتح والاغلاق، والاقفال وجذب الأقفال، تهشمت الأبواب، وتقلعت الرزات».

«وإذا كثر الصبيان، وتضاعف البوش، نزعت مسامير الأبواب، وقلعت كل ضبة، ونزعت كل رزة، وكسرت كل جوزة، وحفر فيها آبار الددن، وهشموا بلاطها بالمداحي، هذا مع تخريب الحيطان بالأوتاد، وخشب الرفوف».

وإذا كثر العيال والزوار، والضيفان والندماء، احتيج من صب الماء، واتخاذ الحببة القاطرة، والجرار الراشحة، إلى أضعاف ما كانوا عليه، فكم من حائط قد تآكل أسفله، وتناثر أعلاه، واسترخى أساسه، وتداعى بنيانه، من قطر حب، ورشح جر، ومن فضل ماء البئر، ومن سوء التدبير».

وعلى قدر كثرتهم يحتاجون من الخبيز والطبيخ، ومن الوقود والتسخين، والنار لا تبقي ولا تذر، وإنما الدور حطب لها، وكل شيء فيها من متاع فهو أكل لها، فكم من حريق قد أتى على أصل الغلة، فكلفتم أهلها أغلظ النفقة. وربما كان ذلك عند غاية العسرة، وشدة الحال، وربما تعدت تلك الجناية إلى دور الجيران، وإلى مجاورة الأبدان والأموال».

«فلو ترك الناس حينئذ رب الدار وقدر بليته، ومقدار مصيبته، لكان عسى ذلك أن يكون محتملا ولكنهم يتشاءمون به، ولا يزالون يستثقلون ذكره، ويكثرون من لائمته وتعنيفه!!

«نعم، ثم يتخذون المطابخ في العلالي على ظهور السطوح، وإن كان في أرض الدار فضل، وفي صحنها متسع، مع ما في ذلك من الخطار بالأنفس، والتغرير بالأموال، وتعرض الحرم ليلة الحريق لأهل الفساد، وهجومهم مع ذلك على سر مكتوم، وخبئ مستور، من ضيف مستخف، ورب دار متوار، ومن شراب مكروه، ومن كتاب متهم، ومن مال جم أريد دفنه، فأعجل الحريق أهله عن ذلك فيه، ومن حالات كثيرة، وأمور لا يحب الناس أن يعرفوا بها».

ثم لا ينصبون التنانير، ولا يمكنون للقدور، إلا على متن السطح، حيث ليس بينها وبين القصب والخشب الا الطين الرقيق، والشيء لا يقي، هذا مع خفة المؤنة في أحكامها، وأمن القلوب من المتالف بسببها».

«فإن كنتم تقدمون على ذلك منا ومنكم وأنتم ذاكرون، فهذا عجب! وإن كنتم لم تحفلوا بما عليكم في أموالنا، ونسيتم ما عليكم في أموالكم، فهذا أعجب!».

«ثم إن كثيرا منكم يدافع بالكراء، ويماطل بالأداء، حتى إذا جمعت أشهر عليه، فر وخلى أربابها جياعا، يتندمون على ما كان من حسن تقاضيهم واحسانهم فكان جزاؤهم وشكرهم اقتطاع حقوقهم، والذهاب بأقواتهم»

ويسكنها الساكن حين يسكنها وقد كسحناها ونظفناها، لتحسن في عين المستأجر، وليرغب فيها الناظر، فاذا خرج ترك فيها مزبلة وخرابا، لا تصلحه الا النفقة الموجعة».

«ثم لا يدع مترساً الا سرقه، ولا سلما الا حمله، ولا نقصا الا أخذه، ولا برادة إلا مضى بها معه، ولا يدع دق الثوب، والدق في الهاون والميجان، في أرض الدار».

و«يدق على الأجذاع والحواضن والرواشن».

«وإن كانت الدار مقرمدة، أو بالأجر مفروشة، وقد كان صاحبها جعل في ناحية منها صخرة، ليكون الدق عليها، ولتكون واقية دونها، دعاهم التهاون والقسوة، والغش والفسولة، إلى أن يدقوا حيث جلسوا، وإلى ألا يحفلوا بما أفسدوا!! لم يعط قط لذلك أرشاً، ولا استحل صاحب الدار، ولا استغفر الله منه في السر!! ثم يستكثر من نفسه في السنة إخراج عشرة دراهم، ولا يستكثر من رب الدار ألف دينار في الشراء، يذكر ما يصير إلينا مع قلته، ولا يذكر ما يصير اليه مع كثرته!» هذا والأيام التي تنقض المبرم، وتبلى الجدة، وتفرق الجميع المجتمع، عاملة في الدور، كما تعمل في الصخور، وتأخذ من المنازل، كما تأخذ من كل رطب ويابس، وكما تجعل الرطب يابساً هشيماً، والهشيم مضمحلا».

«ولا نهدام المنازل غاية قريبة، ومدة قصيرة، والساكن فيها هو كان المتمتع بها، والمنتفع بمرافقها، وهو الذي أبلى جدتها وتحلاها، وبه هرمت وذهب عمرها، لسوء تدبيره».

«فاذا قسمنا الغرم عند انهدامها باعادتها، وبعد ابتنائها، وغرم ما بين ذلك من مرمتها واصلاحها، ثم قابلنا بذلك ما أخذنا من غلاتها، وارتفقنا به من إكرائها، خرج على المسكن من الخسران، بقدرما حصل للساكن من الربح، الا أن الدراهم التي أخرجناها من النفقة كانت جملة، والتي أخذناها على جهة الغلة جاءت مقطعة».

«وهذا مع سوء القضاء، والاحواج إلى طول الاقتضاء، ومع بغض الساكن للمسكن، وحب المسكن للساكن، لأن المسكن يحب صحة بدن الساكن، ونفاق سوقه، إن كان تاجراً، وتحرك صناعته، إن كان صانعاً، ومحبة الساكن أن يشغل الله عنه المسكن كيف شاء: إن شاء شغله بعينه، وإن شاء بزمانه، وإن شاء بحبس، وإن شاء بموت!» ومدار مناه أن يشغل عنه، ثم لايبالي كيف كان ذلك الشغل! الا انه كلما كان أشد كان أحب إليه، وكان أجدر أن يأمن، وأخلق لأن يسكن، وعلى أنه إن فترت سوقه، أو كسدت صناعته، ألح في طلب التخفيف من أصل الغلة، والحطيطة مما حصل عليه من الأجرة، وعلى أنه أتاه الله بالأرباح في تجارته، والنفاق في صناعته، لم ير أن يزيد قيراطاً في ضريبته، ولا أن يعجل فلساً قبل وقته».

«ثم إن كانت الغلة صحاحا، دفع أكثرها مقطعة، وان كانت انصافا وأرباعا، دفعها قراضة مفتتة، ثم لا يدع مزأبقاً، ولا مكحلا، ولا زائفا، ولا ديناراً بهرجاً، الا دسه فيه، ودلسه عليه، واحتال بكل حيلة، وتأتي له بكل سبب، فإن ردوا عليه بعد ذلك شيئا، حلف بالغموس إنه ليس من دراهمه، ولا من ماله، ولا رآه قط، ولا كان في ملكه».

«فإن كان الرسول جارية رب الدار أفسدها. وإن كان غلاماً خدعه. هذا مع الإشراف على الجيران، والتعرض للجارات، ومع اصطياد طيورهم، وتعريضنا لشكايتهم!» «وربما استضعف عقولهم، وطمع في فسادهم وغبنهم. فلا يزال يضرب لهم بالأسلاف، ويغريهم بالشهوات، ويفتح لهم أبواباً من النفقات، ليغبنهم، ويربح عليهم. حتى إذا استوثق منهم، أعجلهم، وحزق بهم، حتى يتقوه ببيع بعض الدار، أو باسترهان الجميع، ليربح مع الذهاب بالأصل السلامة- مع طول مقامه- من الكراء. وربما جعله بيعاً في الظاهر، ورهناً في الباطن. فحينئذ يفظ بهم دون المهلة، ويدعيها قبل الوقت!» «وربما بلغ من استضعافه، واستثقاله لأداء الكراء، أن يدعي أن له شقيصاً، وأن له يداً، ليصير خصماً من الخصوم، ومنازعاً غير غاصب».

«وربما اكترى المنزل وفيه مرمة، فاشترى بعض مايصلحها. ثم يتوخى عاملاً جيد الكسوة، وجيراناً آنية وآلة. فإذا شغل العامل وغفل، اشتمل على كل ماقدر عليه، وتركهم يتسكعون!» «وربما استأجر إلى جنب سجن، لينقب أهله إليه، وإلى جنب صراف لينقب عليه، طلباً لطول المهلة والستر، ولطول المدة والأمن».

وربما جنى الساكن مايدعو إلى هدم دار المسكن: بأن يقتل قتيلاً، أو يجرح شريفاً. فيأتي السلطان الدار، وأربابها إما غيب، وإما أيتام، وإما ضعفاء؛ فلا يصنع شيئاً دون أن يسويها بالأرض!» «وبعد فالدور ملقاة، وأربابها منكوبون وملقون. وهم أشد الناس اغتراراً بالناس، وأبعدهم غاية من سلامة الصدور. وذلك أن من دفع داره ونقضها وساجها وأبوابها، مع حديدها وذهب سقوفها، إلى مجهول لايعرف، فقد وضعها في مواضع الغرر، وعلى أعظم الخطر. وقد صار في معنى المودع، وصار المكتري في موضع المودع. ثم ليست الخيانة وسوء الولاية إلى شيء من الودائع أسرع منها إلى الدور».

وأيضاً، إن أصلح السكان حالاً من إذا وجد في الدار مرمة، ففوضوا إليه النفقة، وأن يكون ذلك محسوباً له عند الأهلة، يشفف في البناء، ويزيد في الحساب».

«فما ظنك بقزم هؤلاء أصلحهم، وهم خيارهم!» «وأنتم أيضاً إنما اكتريتم مستغلات غيرنا بأكثر مما اكتريتموها مناً. فسيروا فينا كسيرتكم فيهم، وأعطونا من أنفسكم، مثل ما تريدونه منا».

«وربما بنيتم في الأرض. فإذا صار البناء بنيانكم، وإن كانت الأرض لغيركم، ادعيتم الشركة، وجعلتموه كالإجارة، وحتى تصيروه كتلاد مال، أو موروث سلف».

«وجرم آخر: وهو أنكم أهلكتم أصول أموالنا، وأخربتم غلاتنا، وحططتم بسوء معاملتكم أثمان دورنا ومستغلاتنا، حتى سقطت غلات الدور من أعين المياسير وأهل الثروة، ومن أعين العوام والحشوة؛ وحتى يدافعوكم بكل حيلة، وصرفوا أموالهم في كل وجه؛ وحتى قال عبيد الله بن الحسن قولاً أرسله مثلاً، وعاد علينا حجة وضرراً. وذلك أنه قال: غلة الدار مسكة، وغلة النخل كفاف. وإنما الغلة غلة الزرع والنسولتين».

«وإنما جر ذلك علينا حسن اقتضائنا، وصبرنا على سوء قضائكم، وأنتم تقطعونها علينا، وهي عليكم مجملة، وتلووننا بها، وهي عليكم حالة.

فصارت لذلك غلات الدور- وإن كانت أكثر ثمناً ودخلاً- أقل ثمناً وأخبث أصلاً من سائر الغلات».

«وأنتم شر علينا من الهند والروم، ومن الترك والديلم، إذ كنتم أحضر أذى، وأدوم شراً».

«ثم كانت هذه صفتكم وحليتكم ومعاملتكم، في شيء لابد لكم منه؛ فكيف كنتم لو امتحنكم بما لكم عنه مندوحة، والوجوه لكم فيه معرضة، وأنتم فيها بالخيار، وليس عليكم طريق الاضطرار؟» «وهذا مع قولكم: إن نزول دور الكراء، أصوب من نزول دور الشراء. وقلتم: لأن صاحب الشراء قد أغلق رهنه، وأشرط نفسه، وصار بها ممتحناً، وبثمنها مرتهناً».

«ومن اتخذ داراً فقد أقام كفيلاً لايخفر، وزعيماً لايغرم. وإن غاب عنها حن إليها. وإن أقام فيها ألزمته المؤن، وعرضته للفتن، إن أساءوا جواره، وأنكر مكانه، وبعد مصلاه، ومات عنه سوقه، وتفاوتت حوائجه، ورأى أنه قد أخطأ في اختيارها على سواها، وأنه لم يوفق لرشده حين آثرها على غيرها. وإن من كان كذلك فهو عبد داره، وخول جاره».

«وإن صاحب الكراء الخيار في يده، والأمر إليه: فكل دار هي له متنزه، إن شاء، ومتجر، إن شاء، ومسكن، إن شاء. لم يحتمل فيها اليسير من الذل، ولا القليل من الضيم؛ ولايعرف الهوان، ولايسام الخسف، ولايحترس من الحساد، ولايداري المتعللين».

«وصاحب الشراء يجرع المرار، ويسقى بكأس الغيظ، ويكد لطلب الحوائج، ويحتمل الذلة، وإن كان ذا أنفة. إن عفا عفا على كظم. ولا يوجه ذلك منه إلا إلى العجز. وإن رام المكافأة، تعرض لأكثر مما أنكره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق».

«وزعمتم أن تسقط الكراء أهون، إذ كان شيئاً بعد شيء، وأن الشدائد إذا وقعت جملة جاءت غامرة للقوة. فأما إذا تقطع وتفرق، فليس يكترث لها إلا من يفقدها ويذكرها».

«ومال الشراء يخرج جملة، وثلمته في المال واسعة، وطعنته نافذة. ليس كل خرق يرقع، ولا كل خارج يرجع».

«وأنه قد أمن من الحرق والغرق، وميل أسطون، وانقصاف سهم، واسترخاء أساس، وسقوط سترة، وسوء جوار، وحسد مشاكل».

«وإنه إما لا يزال في بلاء، وإما أن يكون متوقعاً لبلاء».

«وقلتم: إن كان تاجراً، فتصريف ثمن الدار في وجوه التجارات أربع، وتحويله في أصناف البياعات أكيس. وإن لم يكن تاجراً، ففيما وصفناه له ناه، وفيما عددنا له زاجر».

«فلم يمنعكم حرمة المساكنة، وحق المجاورة، والحاجة إلى السكنى، وموافقة المنزل، أن أشرتم على الناس بترك الشراء! وفي كساد الدور فساد لأثمان الدور، وجراءة للمستأجر، واستحطاط من الغلة، وخسر ان في أصل المال».

«وزعمتم أنكم قد أحسنتم إلينا حين حثثتم الناس على الكراء، لما في ذلك من الرخاء والنماء! فأنتم لم تريدوا نفعنا بترغيبهم في الكراء، بل إنما أردتم أن تضرونا بتزهيدكم في الشراء!» «وليس ينبغي أن يحكم على كل قوم إلا بسبيلهم، وبالذي يغلب عليهم من أعمالهم. فهذه الخصال المذمومة كلها فيكم، وكلها حجة عليكم، وكلها داعية تهمتكم، وأخذ الحذر منكم. وليست لكم خصلة محمودة، ولا خلة فيما بيننا وبينكم مرضية!» «وقد أريناكم أن حكم النازلين كحكم المقيمين، وأن كل زيادة فلها نصيب من الغلة».

«ولو تغافلت لك- يا أخا أهل البصرة- عن زيادة رجلين، لم أبعدك- على قدر ما رأيت منك- أن تلزمني ذلك- فيما يتبين- حتى يصير كراء الواحد ككراء الألف، وتصير الإقامة كالظعن، والتفريغ كالشغل!» «وعلى أني لو كنت أمسكت عن تقاضيك، وتغافلت عن تعريفك ما عليك، لذهب الإحسان إليك باطلاً، إذ كنت لاترى للزيادة قدراً».

«وقد قال الأول: والكفر مخبثة لنفس المنعم، وقال الآخر: تبدلت بالمعروف نكراً وربما تنكر للمعروف من كان يكفر».

«أنت تطالبني ببغض.. ، وبما بين أهل الكوفة والبصرة، وبالعداوة التي بين أسد وكندة، وبما في قلب الساكن من استثقال المسكن! وسيعين الله عليك. والسلام».