طرحتُ في المقال السابق أول شروط التنمية المستدامة للجامعة ألا وهو توفر البنية الفكرية والثقافية التي تسمح بالتنوع الفكري والثقافي وحرية البحث، وحيث إن المثال التطبيقي الذي أستخدمه في هذه المقالات هو جامعة الملك سعود، فقد تردد علي السؤال لماذا جامعة الملك سعود؟ وهو سؤال أتى في صيغ مختلفة؛ استنكار، اتهام، لفت انتباه إلى الجامعات الأخرى .. إلخ. ريثما أجيب عن السؤال في مقال منفصل، أرجو متابعة ومناقشة الرؤية التي أطرحها هنا حول تأسيس التطور المستدام للجامعة...

الشرط الثاني للحصول على تنمية مستدامة هو توفر البيئة التنظيمية المستقرة، البيئة التي تحدد أطر العلاقة بين مختلف العاملين في المجال الأكاديمي ، وتحدد الواجبات والحقوق وآليات اتخاذ القرارات بشكل سليم وموضوعي ، وتحمي الحريات الأكاديمية وتحافظ على الموارد المالية وغير المالية وترشد استخدامها... إلى آخره من مواصفات التنظيم الفعال.

الجامعات يحكمها نظام التعليم العالي والجامعات وهو نظام بني وفق حيثيات رئيسية منها أن الجامعة مؤسسة ريعية تعتمد على مورد واحد ألا وهو الميزانية الرسمية الحكومية؛ ومنها اعتبار الجامعة إدارة حكومية مثل غيرها من المؤسسات البيروقراطية التي يجب أن تتبع تسلسلا هرميا حكوميا بدلاً من معاملتها كمؤسسة فكرية ذات استقلالية تامة؛ ومنها نزعة الوصاية والرقابة التي نلحظها في كثير من دوائرنا البيروقراطية...

الإشكالية التي تواجهها جامعة الملك سعود وغيرها تتمثل في أمرين الاول عدم استيعاب نظام التعليم العالي والجامعات لمختلف نشاطاتها وتعاملاتها وطموحاتها الحديثة التي تنمو وتتطور ، والثاني عدم تطويرها (أي الجامعة) نظامها الداخلي ولوائحها التنفيذية المتكاملة والمصاغة بشكل قانوني وتنظيمي واضح لجميع منسوبيها. هنا تبرز فراغات حقوقية وإدارية وتنظيمية في ما تقوم به الجامعة من أعمال ومبادرات. ولتعبئة تلك الفراغات وحرصاً على الإنجاز السريع تتخذ القرارات بشكل غير مثالي من الناحية المؤسسية، أحياناً بشكل فردي وغير منسجم مع رسالة الجامعة وإستراتيجيتها ومنهجيتها العلمية والأخلاقية والأكاديمية. بعض الجامعات لم تملك إداراتها جرأة جامعة الملك سعود وبالتالي عطلت كثيرا من المبادرات بحجة عدم وجود غطاء إداري ونظامي واضح لها.

ليس مطلوباً أن تعطل جامعة الملك سعود مبادراتها لكن المطلوب هو أن تعمل على تطوير نظمها وسياساتها ولوائحها وإجراءاتها الإدارية والفنية بشكل يليق بجامعة تجاوزت نصف قرن من عمرها المديد، والأهم من ذلك بشكل يسمح لها النمو المستدام دون مصاعب تنظيمية وقانونية وإدارية. بل إن الجامعة مطلوب منها أكثر من ذلك، مطلوب منها الإسهام في تطوير نظم التعليم العالي بتقديم نموذج يمكن أن يكون مفيداً لبقية الجامعات...

لا أريد تتبع تفاصيل اللوائح والنظم للبحث في ثغراتها فالأمر يطول، لكنني ألتقط إشارة أو مثالا واحدا، يتمثل في مجلس جامعة الملك سعود وهو (أو هكذا يفترض) أعلى سلطة مرجعية للجامعة، الذي أراه يتحول إلى مجلس متواضع بسبب ضخامته وصلاحياته وآليات إدارته واتخاذ قراراته، بل أصبحت مهامه شكلية تتمثل في المصادقة على مواضيع معروف سلفاً قراراتها، بينما هناك قرارات حيوية وإستراتيجية كبيرة تؤثر في مسيرة الجامعة الآنية والمستقبلية تُتخذ خارج أروقة هذا المجلس بحجة أنها لم ترد في نظام التعليم العالي. هذا الأمر يقلل فرصة الجامعة في وجود مجلس أعلى حقيقي وفعال يتولى رسم ومناقشة إستراتيجياتها وسياساتها المختلفة، ويدفعها لأن تتحول إلى مؤسسة هرمية تتسم بفردية اتخاذ القرار مع تنافي ذلك وطبيعة المؤسسات الأكاديمية المعتمدة على المجالس المؤسسية.

الأسبوع القادم سنطرح الفكرة الثالثة في مجال استدامة التطور وتتعلق بموارد الجامعة...