بداية أسأل الله أن يبعد عنا جميعاً الأمراض وأن يهبنا من عنده الصحة والعافية وأن يبعد الأوبئة عن البلاد والعباد .

لقد وصف عدد من الرحالة ما أصاب سكان الجزيرة العربية من الأمراض أو ما كان عليه حياتهم وأسلوب معيشتهم الظاهر ، وقد وصفوا سنة الصخونة ، كما وصفوا أمراضا سابقة لها ، يضاف لذلك أن أجدادنا وصفوا الكثير مما أصابهم من الأمراض ومن ذلك سنة الصخونة و الجدري وأمراض أصابت مواشيهم ، وبالتأكيد فإن أجدادنا ألصق بالمشكلة وأصدق وصفا من غيرهم، ولا نريد أن نستعرض الكثير من الأحداث وإنما نأخذ مقارنة بين وصف الرحالة بوركهارت الذي وصف حالة من مرض الطاعون في ينبع إبان وجود الأتراك في الجزيرة العربية وقبيل هدم الدرعية بحوالي ثلاث سنوات وذلك في عام 1815، 1230ه ، وهي سنوات بدأت فيها حروب المدافع والتدخل الخارجي .


ناصر الحميضي

ووصف الكثير من آبائنا وأجدادنا فيما بعد سنة الصخونة ( الرحمة) تحديدا ، حيث وقعت الحرب العالمية الأولى ولم تسلم الأجواء من ملوثات الحروب وتبعاتها.

فلنبدأ أولا بسنة الصخونة لأنها الأقرب

لعلي في هذا المقال أقدم شيئاً مما ذكره الكثيرون من كبار السن وما تداوله الرواة عن سنة عم فيها مرض غريب ، لم يسبقه مرض مماثل تحتفظ به ذاكرة الناس ، مات فيه خلق كثير في الجزيرة العربية ولم يقتصر على بلد معينة بل كان منتشرا في مساحة كبيرة امتدت إلى دول الجوار كالخليج والعراق وغيرها ، وهذه السنة سميت عندهم سنة الرحمة أو الصخونة ، فمن مات رددوا دعاء الرحمة له ( الله يغفر له ، الله يرحمه )، و أخذوا جانب التفاؤل والرجاء في الله أيضا بأنه رحمة لهم فالله عز وجل رؤوف رحيم بعباده ، وسموه بسنة الصخونة لأن أي مرض يصاب به أحدهم يقولون عنه ( مصخن ) أي مسخن والسخونة هي الحرارة وهذه السنة توافق العام 1337ه 1919م ، وهو الموافق لوقت ملء الأجواء بمخلفات الحرب العالمية الأولى التي تجر أذيال خرابها في العالم مخلفة أكثر من عشرة ملايين قتيل واستخدمت فيها الغازات ربما لأول مرة ، وطبعا مخلفاتها كثيرة ، أهمها الموتى وجثثهم وما استخدم من مواد .

سنة الصخونة إذا كانت السنة هي أول يستنشق فيها العالم هواء ما بعد الحرب العالمية الأولى ، وهي قريبة نسبيا منا نحن بالنسبة للفواجع الكبرى فلم يمض عليها سوى 93 سنة وبعض من ولد فيها لا يزال على قيد الحياة الآن ولا يهمنا الآن كنه المرض ولكن يهمنا ما الذي جرى ؟

وقد قيل أنه كان طاعوناً تسببت فيه الوفيات والموتى، أو سموماً استخدمت وغازات أو أنه وباء من نوع لم يكشف عنه يعتقد أنه انفلونزا الخنازير.

لقد استغرق المرض الذي ظهر فجأة وبمقدمات بسيطة مدة ثلاثة أشهر تقريبا أو أربعة ، وكان أشدها وسط هذه المدة ، وقد بدأت بموت بعضهم بحيث يموت في اليوم ثلاثة إلى أربعة في المدن والقرى ، وقد أخذ الأمر في بادئه بأنه أمر محدود التأثير ، ولم يع أحد بأن وراء هذه العينات البسيطة التي تموت وباء أكبر فتكاً وأكثر ضحايا ، وكان في القرى عدد من النعوش قليل فلم يكن في بعضها سوى نعش واحد وضع في الجامع ، وبعضها يوجد نعشان أو ثلاثة على الأكثر ، فلم يكن للنعوش حاجة فيما سبق هذا الوباء ، فتكاد السنة كلها تمر لا يموت سوى ثلاثة أشخاص ، ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان.

بدأ الناس يتساقطون كما لو أنهم تناولوا السم ( على وصف أحد كبار السن).

ولا يمهل المرض من أصابه أكثر من يوم أو يومين ، بل إن بعضهم ينام ليلته ويصلى عليه الفجر ، حتى إن بعض البيوت مات أهلها جميعاً واقفلت دورهم ولم يكن العدد بالعشرات بل بالآلاف ، وصار الناس يصلون على الخمسة والعشرة مع بعضهم في المسجد ، وتطوع الكثيرون في غسل الموتى وحفر القبور والدفن ، لأن العدد فاق قدرات من يحفر القبور .

وعملت نعوش مؤقتة من الأبواب الصغيرة ، حيث تخلع بعض الأبواب الخفيفة وتتخذ نعوشاً يحمل الميت عليها .

وكانوا يمشون على البيوت آخر الليل في بعض القرى ينادون أهلها ، خوفاً من أن يكون أهل الدار قد ماتوا جميعاً ، أو عندهم ميت ويحتاجون لمساعدة .

وبالفعل وجدوا بيوتاً قد مات أهلها وخيم الصمت عليها ، ففتحت عن طريق كسر الباب ، ونقلوا إلى المقبرة وأقفلت الدار.

وخاف الكثيرون أن تكون عقوبة وأنه بلاء بسبب الذنوب ، فراجعوا أنفسهم ومعاملاتهم وتذكروا ما عليهم ، بشيء من المحاسبة الصادقة المخلصة والتدقيق في مجريات حياتهم ، وكتبوا وصاياهم ، و بعضهم طلق زوجته لأنه يرى أنه خطبها على خطبة غيره ، أو أنها كانت في السابق مع زوج ، وأغراها بالزواج فطلقت من الأول ، وردت المظالم ، وأعيدت الأموال لأصحابها وتذكر الناس أخطاءهم في البساتين والحدود والأموال وردوا كل ما يستطيعون رده فقد رأوا الموت بأعينهم وانتظروا أن يأتيهم الدور بين لحظة وأخرى .

ومن شدة البلاء صارت تلك السنة يؤرخ بها عندهم ، فيقولون : فلان ولد قبل سنة الصخونة أو فيها أو بعدها بكذا سنة .

ومما يؤكد عليه في وصف هذه السنة المريعة حقاً والمخيفة أن العديد من الناس ساد بينهم التوكل على الله واليقين بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، وهذه بادرة طيبة وصفة حميدة وإيمان بالقضاء والقدر ، فلم يتركوا مساعدة المرضى ولم يتخلوا عن مباشرتهم وتغسيلهم ودفنهم ، أو يتطيروا أو يحاولوا عمل تحصين وعزل من أي نوع كان ، بل إن الأطفال والكبار على حد سواء يدخلون على بعضهم والمرضى بينهم وفي أسواقهم والمساجد ويمارسون جميعا حياتهم الطبيعية تماما كما لو كانوا أصحاء جميعاً .

ولم يصب كل السكان بالمرض بل أصيب بعضهم وهذا البعض بلا شك كثير جدا لكن هناك من باشر المرضى واعتنى بهم ومع ذلك لم يصب بمرض أو عدوى ، وفي الوقت نفسه لم يسلم الآخرون الذين حياتهم شبه معزولة بحكم طبيعتها لم يسلموا من المرض ، بل انتقل إليهم ، وهذا مؤكد لدى جميع الرواة الذي ذكروا أن هذا الشيء حاصل بالفعل ، فلم يصب المرض أناس ناموا مع المرضى أو غسلوهم بعد موتهم ودفنوهم ، بل انتهت سنة الصخونة وهم في أتم صحة وعافية .

أسأل الله لنا ولكم تمام الصحة والعافية

تتبع الحلقة الثانية