منذ بداية التسعينات الميلادية بدأت تأثيرات نظرية الفوضى في النقد تظهر بشكل جلي في الأدب العالمي. لقد بدأ يظهر تغيير ملموس في كيفية تناول كتّاب الأدب للوجود ومكان الإنسان وتأثيره في ذلك الوجود. فبدلاً من الجو السائد المشبع بعبثية الوجود وانتشار الفوضى فيه، وهي أفكار بلغ التعبير عنها أدبياً ذروته خلال الستينات والسبعينات، عاد لكتاب الأدب نوع من الطمأنينة، طمأنينة سببها الاكتشاف العلمي بالغ الأهمية وهو نظرية الفوضى.

لقد تبنى الواعي من الكُتّاب بشكل عام ومن كتاب الأدب بشكل خاص، الجوانب غير العلميّة لهذه النظرية التي تتمثل في مواضيع الأنسنة humanist themes التي وجدوها في النظرية. والمقصود باتجاهات الأنسنة هنا هو المجال الفكري الذي تتم من خلاله المعالجة من خلال الكتابة للإنسان ذاته وللمعاني الأنسانية المرتبطة بوجوده في معزل عن الظاهرة الفيزيائية لوجود الإنسان على سطح الأرض. ونظرية الفوضى تتمثل في مجموعة من الأفكار التي تطورت في مجال الرياضيات والفيزياء لتوضيح أنظمة فيزيائية مجردة، كما خلقت مجالات واسعة لتغيير مفاهيم كانت سائدة في الدراسات الإنسانية ككل، وفي الأدب بالذات من خلال مفهوم الأنسنة.

ويشير مصطلح الأنسنة إلى طرق قديمة ومعروفة في الإنسانيات تنبع من وجود تصوّر معين لإبداع الإنسان الأدبي ولهويته وللمحيط المادي الذي يعيش فيه ويتفاعل ضمن حدوده.

وعلى الرغم من التاريخ المشحون للمصطلح والنقد الذي تعرّض له فليس المقصود هنا بمصطلح الأنسنة الجوانب الدينية أو العلمانية أوالأخلاقية للإنسان والتي سادت أثناء فترة ما يسمى بالواقعية قبل أن تبدأ مرحلة الحداثة وما بعدها. إنما يمكن استخدامه في وقتنا الحاضر، أي الفترة التي تلت مابعد الحداثة وفي ظل نظرية الفوضى لتوضيح التصوّر المقصود لتأثير نظرية الفوضى على الأدب.

ومفهوم الأنسنة الحديث يشمل من جهة الاهتمام بهوية الإنسان، ومن جهة أخرى يشمل الاهتمام بما ينتجه من فكر يتميز بالمتانة وببناء يحمل نوعاً من الواقعية المعرفيّة. كما يحمل مصطلح الأنسنة في صورته الحديثة اعتراف وتقدير للتراكم المعرفي الإنساني. تقول ميرجا بولفيلينPolvinen Merja في رسالتها لنيل الدكتوراه "نظرية الفوضى والأدب ومنظور الأنسنة Chaos Theory, Literature and the Humanist Perspective" (2008م): "أغلب ما تناوله نقاد الأدب عن نظرية الفوضى يركّز على العلاقة بين عقل الإنسان وبين محيطه سواء كان نصوصاً أخرى أو أشخاصًا آخرين من عالم الواقع أو من العالم المتخيّل. فمنذ منتصف القرن العشرين تأثر فهم الغرب لهذه العلاقة بفكرة الوجود المادي (المحسوس) كمعلومة، فبعد الحرب العالمية الثانية خلقت المضامين المعرفيّة للنظرية النسبيّة ولميكانيكا الكم وغيرهما حالة من عدم اليقين. وهذه الحالة حلّت محل الرؤى الشاملة المتفائلة عن مصداقية المعرفة، وما أن تزحزح الإنسان من مكانته كذروة الخلق حتى أصبحت حالة عدم اليقين تشمل تفسير ليس فقط الوظائف الأساسية للعالم المادي ولكن أيضا لغة الإنسان ووعيه. وكل هذا شكّل، حسب قول باتريشا واغ Patricia Waugh، رؤية للوجود كطوفان من المعلومات تتحرك حتميا إلى نقطة فنائها. ويرى كثير من الكتّاب نظرية الفوضى من هذا المنطلق. ولكنني أقول (والحديث لا يزال لفيرجا بولفيلين) إن هناك بُعداً آخر، فبدلا من التركيز على نموذج معلومات عالمي قابل للتطبيق يتمثل البعد الآخر في التركيز على الماديات المختلفة والمتداخلة والتي تقع ضمن مستويات الخبرة الإنسانية."

وتذكر بولفانين في نهاية الفصل الأول من رسالتها أن من الواضح وجود تشابه مثير بين الطرق التي تمكّن الرياضيات غير الخطيّة من تفسير تعقيدات الكون، وبين الطرق التي يحاول فيها المختصون بالأدب من كتّاب ونقاد التعامل مع التعقيد في النصوص. وكلامها يعيد للعلم هيبته.

ولفهم الابهام في شكل العمل الأدبي ومحتواه ومعناه بدت نظرية الفوضى مفيدة لأن كتّاب الأدب وناقديه استخدموا الأنسنة كوسيلة للتفسير. وللجمع بين الأدب المعاصر وبين مفاهيم الأنسنة قام الأدباء والنقاد باستنباط طرق لدراسة الأشكال الأدبية المعاصرة تختلف عن تلك المتصلة بمفاهيم علمية رياضية مثل الانفصال والانكسار. فنظرية الفوضى قادرة على تقديم القوى الحركية المتشظية وغير المتوقعة بأشكال مرئية من خلال خرائط حاسوبية تبيّن التناسق والاتساق والجمال في تلك القوى الحركية. وتلك الأشكال وفرت للكتّاب والنقاد مفاهيم جديدة يستطيعون من خلالها تقديم ودراسة الأعمال الأدبية كنصوص مركّبة يمكن فهمها بالتفكيك والشرح. كما وجد المشتغلون بالأدب في نظرية الفوضى وسائل تمكنهم من الوصول إلى المعنى الشامل في الأدب وإلى الشخصي فيه في الوقت ذاته. كما استطاعوا إيجاد صلة بين الأشكال الأدبية وبين وظيفة القوى المحركة لعالم الواقع.

وتؤكد بولفالين أن سبب بحث المهتمين بالأنسنة عن إجابات لأسئلة تتعلق بالوجود الأدبي خارج حقول الدراسات الأدبية وحتى خارج حدود الجماليات الفلسفية يعود إلى كون اعمالهم تعتبر ردود أفعال للمفهوم السائد للتناص في الدراسات الأدبية. فحقيقة قيام العديد من نقاد الأدب بالبحث عن تناظر وتماثل بين الأبنية الأدبية وبين أنظمة القوى المحركة يفصح عن اهتمام عميق بالوجود المادي وصلته بالأعمال الأدبية.

ولكن، تحذّر كاثرين هيلز Katherine Hayles في كتابها "حد الفوضى Chaos Bound" من مغبّة استخدام نظرية الفوضى، من قِبل المناصرين للأنسنة، لمعارضة المنظور الشامل للواقع لأن النظرية سلاح ذو حدين. فمن جهة، تشير نظرية الفوضى إلى أن القوانين العلمية للحركة تتصف بمحدودية التطبيق بشكل فاق ما هو متوقع. ومن جهة أخرى، تهدف نظرية الفوضى إلى تفسير الفوضى من خلال الاتكاء على القوانين العلمية للرياضيات! وتضيف كاثرين هيلز بأن نظرية الفوضى تختلف عن نظريات ما بعد البنيوية، فنظرية الفوضى لا تُسقط كلياً المنظور العلمي الشامل لأنها تتعامل مع مفردات علمية مثل الفرضيات المجردة ومنطق الكيان المتكامل والتفكير الثنائي وغيرها.

إن تطبيقات نظرية الفوضى في الأدب تجمع بين احترام العلم والاستفادة من منجزاته في تركيب وفهم العمل الأدبي، وفي الوقت ذاته تحيي الأنسنة من خلال احترام عقل الإنسان القادر على خلق أعمال أدبية تتصف بالتعقيد والتركيب المتفرد، وأيضاً قابلة للتفسير العلمي.