قبل سنوات بعيدة كانت ساعة النوم تحل بعد أداء صلاة العشاء، ولم يكن هناك (سهارى) سوى العشاق والمرضى والمرابطين، حيث كان السهر مهمة شاقة وصعبة، فلا يسهر إلا من اضطر لذلك، غير أن الحال اليوم تبدل، فقد انقلبت الساعة البيولوجية لدى الكثير من العامة، وأضحى السهر عادة متأصلة فيهم، حتى برزت مؤخراً ظاهرة «المواصلة»، التي يتفاخر بها الشباب والشابات، الذين لا يرون في السهر أي مشكلة تستحق أن تؤرقهم.

إضاعة الوقت

تعبر "منى سالم" عن استيائها من هذه العادة السيئة التي يسلكها أبناؤها قائلة: السهرمن أكثر العادات التي يألفها المجتمع، أحبها المراهقون والشباب، في حين يمقتها الآباء والأمهات، لما فيها من إضاعة للوقت، وانعكاسات سلبية على دراستهم وصحتهم، وما يؤلمني هو فشلي في مواجهة سهر أبنائي، حتى في أيام الدراسة، بالرغم من أنني بذلت الكثير لتغيير هذا النمط المعيشي، مضيفةً من أهم أسباب السهر، هو وجود البث المباشر للقنوات الفضائية على مدار الساعة، وكذلك توفر بعض الأمور المسلية مثل "الانترنت" وألعاب "البلاي ستيشن".

"خفاش الليل"

وتقول "بسمة" طالبة جامعية: تسميني والدتي "خفاش الليل"، فبعد تخرجي من الثانوية العامة، انقلبت الساعة البيولوجية في حياتي، وتحولت معها اهتماماتي من النهار إلى الليل، حيث أستمتع كثيرا بالسهر، وتزيد سعادتي عندما أرى شروق الشمس، وأسمع أصوات العصافير، ثم أخلد إلى النوم حتى العصر تقريباً مع أدائي لصلاة الظهر في وقتها، مضيفةً عند الساعة العاشرة مساء، تبدأ قيلولتي والتي لا تتجاوز الساعة، وأنا على هذا الحال منذ ما يقارب الثماني سنوات، لشدة الهدوء الذي يخيم على منزلنا، إذ لا يوجد في المنزل إلا أنا ووالدتي، فهي تنام مبكراً، وأنا أكمل مسيرة "الحراسة الليلية"، أتابع المنتديات وأتصفح الجرائد الالكترونية، وكثيراً ما أتمنى أن يكون لي دوام ليلي، فكامل طاقتي وحيويتي تكون في هذا الوقت.

الفايدي: ما نعيشه اليوم من تغير في حياتنا اليومية مدعاة للبحث والدراسة

الهالات السوداء

وتذكر "هديل محمد" أنها تواجه مشكلة مع موعد النوم، حيث تفتقد إلى الحيوية والنشاط، مع اعتلال المزاج بسبب السهر، خاصةً مع بداية الصيف وزيادة الحرارة، التي تسبب الخمول والكسل، مستطردةً كثيراً ما أحاول أن أخلد إلى النوم في الساعة العاشرة مساءً، لكن محاولاتي تبوء بالفشل، لأجد الساعة قد أصبحت الثالثة أو الثالثة والنصف دون أن أنام، وكثيراً ما أذهب إلى الجامعة وأنا "مواصلة"، ودوماً أفكر بأنه لا مشكلة في السهر، وما يؤسفني مؤخراً هو ظهور الهالات السوداء تحت عيني، والتي لم تخفها الكثير من الخلطات والأدوية.

الشات وتكوين الصداقات

ويقول "علي" طالب جامعي: إنه يميل إلى السهر لكسر الروتين اليومي بعد الدراسة، وأنتظر بفارغ الصبر حلول الليل، مضيفاً أجد به متنفساً لتضييع الوقت، وأتمنى من والدي أن يتفهما ذلك، فنحن على صراع دائم بسبب هذا الموضوع، خاصةً وأنه لا يوجد قرين لي في السن، فأمي وأبي كبيران عمرياً، لذلك أقضي الوقت مع أصحابي، فنتسلى ونتحدث ونجلس في أحد "الكافيهات"، وبعد ذهابي للمنزل، استكمل سهرتي حتى الفجر، أشاهد التلفاز، أو أجلس أمام الكمبيوتر و"الشات" للتعارف وتكوين الصداقات.

د . باهمام : ظهور القنوات الفضائية وكثرة الاستراحات أثرا بشكل كبير على عادات النوم

السهر والسرطان

وتوضح "عائشة الحكمي" من جامعة تبوك، أن السهر عند السعوديين تحول إلى عادة مزمنة في السنوات الأخيرة، لاسيما في فترة الإجازات الصيفية والأعياد، وهذا لاشك له مساوئ معروفة، إذ إن الخلود إلى النوم والراحة ولو لساعات قليلة ليلاً، يفيد المرء أكثر من قضاء نهار كامل في النوم، مضيفةً اللجوء إلى هذه العادة له أسبابه، فالناس يؤثرون ساعات السمر وتجاذب أطراف الحديث، والتي تشكل مطلباً رئيساً للمطالب النفسية، التي يخطئ الناس في التعامل معها، ببذل الكثير لأجلها، سواء كان ذلك مادياً، أو على حساب الصحة الجسدية، ولاشك أن المتعة والأنس مطلب، وقد كشفت دراسات أن فترة النوم ليلاً فيها فوائد جسمية، منها مساعدة الجسد على مقاومة الأمراض، ولاسيما الخطيرة منها، كالسرطان والعياذ بالله، لذا يجب أن يعطى الجسم قسطاً من الراحة لمقاومتها، مشيرةً إلى أن تكاثر وسائل التقنية الحديثة كأجهزة الإنارة والتكييف أوالتدفئة، ساهمت في زيادة ممارسة المجتمع لهذه العادة، فالفترة المسائية فترة طويلة، ويؤثر الناس قضاء مشاغلهم فيها، فالحركة التجارية مثلاً، تكون عامرة ليلاً، يساعد في تلطيفها حالة الجوالليلية، وثمة قاعدة يسير الناس على إثرها، وهي مجاراة ما اعتاد الناس عليه من إحياء السهرات والمناسبات، لاسيما في هذه الفترة، إلى أن أصبحت ضرورة ملحة.


شابان يستخدمان النت حتى ساعات متأخرة من الليل

غياب الاستمتاع باليوم

ويقول عبد الله الفايدي أخصائي اجتماعي: إن ما نعيشه اليوم من تغير نمط حياتنا اليومية، مدعاة للبحث والدراسة، فظاهرة السهر تعاني منها أغلب الأسر، ولا يستثنى من ذلك الصغير والكبير، بل لا يقتصر ذلك على الإجازات، وأصبح نمطا معيشيا حتى في أيام العمل الرسمية وأوقات الدراسة، مؤكداً أن هناك العديد من السلبيات الناتجة عن السهر من الناحية النفسية والاجتماعية، أهمها القلق وفقدان التركيز والعصبية، إلى جانب الكسل والخمول، بالإضافة إلى اختلال وضع الأسرة، وعدم الاجتماع بشكل عام، خاصةً على وجبات الطعام، مما يترتب على ذلك الإخلال بالسنة الكونية المتعلقة بالوقت، وعدم الاستفادة منه بالشكل الصحيح، وغياب الاستمتاع باليوم كما يجب، كما أنه يؤثر بشكل سلبي على أداء الموظف، أو الطالب السهران، وعلى طبيعة العلاقة بين الأزواج، خاصةً إذ كان أحدهما يفضل السهر.


لن يستطيع العامل اتقان عمله وهو قليل النوم

الثقافة السائدة في المنطقة

وتحدث د.أحمد سالم باهمام رئيس المركز الجامعي لطب وأبحاث النوم في كلية الطب في جامعة الملك سعود، عن الأسباب التي أدت إلى الإقبال على السهر في السنوات الأخيرة، وقال: تختلف عادات النوم من شعب لآخر ومن منطقة لأخرى، وهناك عوامل كثيرة تشكل هذه العادات، ويعود الكثير منها إلى الثقافة السائدة في المنطقة، والعرف السائد وكذلك التقاليد، ويلعب المناخ ودرجات الحرارة عاملاً مهماً في تكوين تلك العادات، مستطرداً المجتمع السعودي كمجتمع مسلم، تفرض عليه معتقداته بعض الأمور التي قد تشكل عادات النوم لدى الناس، بسبب الالتزام بمواعيد الصلاة، كما أن حرارة الجو تؤثر على مواعيد النوم والاستيقاظ، فيقل النشاط في فترة الظهيرة والعصر، ويزداد في فترتي المساء، وخلال العشر سنوات الماضية أصبح السهر ظاهرة واضحة في المجتمع السعودي، وقد يكون لبعض الأمور التي إستجدت على المجتمع دور في ذلك، كظهور عدد كبير من القنوات الفضائية وكثرة الاستراحات والمقاهي، كل ذلك أثر بشكل كبير على عادات النوم لدى الناس بمختلف أعمارهم وخلفياتهم العملية والثقافية، وقد ظهر في الفترة الأخيرة عدداً من الدراسات التي أعطت بعض التصور عن عادات النوم لدينا، فقد وجدنا في بحث نشر سابقاً في المجلة الطبية السعودية، أن وقت النوم خلال أيام الأسبوع لدى عينة من السعوديين معدل أعمارهم 33 عاماً، هو الساعة الثانية عشر والنصف بعد منتصف الليل، كما أن ظاهرة السهر يعاني منها الأطفال أيضاً فقد وجدنا في عينة من 1012 طالبا وطالبة في المرحلة الابتدائية، أن الطلاب يسهرون ليلاً أكثر من قرنائهم من نفس المرحلة العمرية في الدول الغربية.

التلفزيون والأطفال

وأكد د.باهمام أن هذه الظاهرة حديثة على المجتمع، ولا تتوافق مع ثقافتنا التي تلزمنا بالاستيقاظ مبكراً، لأداء صلاة الفجر، مضيفاً ينتج عن السهر نقص في عدد ساعات النوم، لأن وقت الدوام أو وقت الدراسة لا يتغير، لذلك يذهب الكثير من الطلاب إلى مدارسهم، والموظفون إلى أعمالهم، وهم لم يحصلوا على ساعات نوم كافية، وهذا وبدون شك ينعكس على تحصيلهم وأدائهم وتركيزهم، ويزيد من نسبة وقوع الحوادث بمختلف أنواعها، وقد وجدنا في بحث نشرناه في المجلة الطبية السنغافورية، أن عدد ساعات النوم لدى طلاب المدارس الابتدائية لدينا أقل من قرنائهم في دول العالم الأخرى، التي أحصت عدد ساعات نوم أطفالها، والسبب في ذلك شقان: الأول هو السهر المبالغ في الليل، والثاني هو أن المدارس عندنا تبدأ مبكراً جداً، ومن العادات السيئة التي انتشرت بين أطفالنا، عادة مشاهدة التلفزيون ليلاً، حيث يستمر (36 55 %) من الأطفال في مشاهدة التلفزيون، أو العاب الفيديو حتى وقت نومهم، وهذا بدوره ينعكس على وقت النوم، حيث ثبت علمياً أن مشاهدة التلفزيون حتى ما قبل النوم، يزيد من اضطرابات النوم عند الأطفال، ويسبب الأرق والتوتر، ويزيد من مقاومة ورفض الطفل للذهاب للنوم، لافتاً إلى أنه في بحث تم تقديمه في المؤتمر السنوي لجمعية الصدر السعودية، وجدنا أن (54%) من طلاب الجامعة ينامون أقل من 7 ساعات مقارنة ب(21%) من نفس الفئة العمرية في الدول المتقدمة، ونقص النوم ينتج عنه نقص في التركيز والذاكرة، وبطء في ردة الفعل، واتخاذ القرارات الصحيحة، كما أنه يسبب زيادة النعاس في النهار وتعكر المزاج، وقد أظهر أكثر من بحث، أحدها أجريناه على طلاب المدارس في الرياض، أن نقص النوم يؤثر على التحصيل الدراسي عند الطلاب.

السهر وحوادث السيارات

وكشف د.باهمام أن طلاب المدارس الابتدائية الذين شملهم المسح في مدينة الرياض، ينامون في فصولهم بواقع (13.5%) من الأولاد، و (6.9%) من البنات، وهذا يعود إلى نقص ساعات النوم، كما أظهرت الأبحاث أن حوادث السيارات المميتة تزداد في الساعات المتأخرة من الليل، وليس في أوقات الذروة، ويعزى ذلك إلى نعاس ونوم السائق أثناء القيادة، مشيراً إلى أن للسهر تأثيراً على "الهرمونات" ووظائف الغدد الصماء، حيث يسبب السهر اختلالاً في إفراز الكثير منها، ويفقد الجسم القدرة التنظيمية والإيقاع اليومي لإفرازها، ومن "الهرمونات" التي تتأثر: "هرمون الكورتيزول" و"الأدرينالين"، وكذلك هرمون النمو المهم جداً للجسم، لأهميته لنمو الأطفال، كما أن السهر يؤثر على الهرمونات الجنسية، وقد يزيد نقص النوم من مقاومة الجسم ل"لأنسولين"، وبالذات عند مرضى السكر، مما يؤدي إلى ارتفاع مستوى "الجلوكوز" في الدم، وثبت حديثاً أن السهر يزيد الوزن، لأسباب كثيرة منها ما يتعلق ب"الهرمونات" مثل هرموني "اللبتين" و"الغريلين".

ضعف الجهاز المناعي

وعن تأثير السهر على الجهاز المناعي، يؤكد د.باهمام أن الأبحاث الحديثة توضح أن السهر ونقص النوم قد ينتج عنه ضعف في الجهاز المناعي، وكذلك ضعف قدرة الخلايا المناعية على التعامل مع الأجسام الغريبة والميكروبات، ويعتقد المختصون أن نقص النوم يزيد من احتمالات الإصابة بنزلات البرد، وقد أثبتت دراسة علمية نشرت في مجلة أرشيفات الطب الباطني (يناير 2009) هذا الاعتقاد، فقد درس الباحثون عدد ساعات نوم 153 متطوعاً، لمدة أسبوعين متتاليين، بعد ذلك تم عزل المتطوعين في غرف خاصة، وتم تعريضهم لفيروس الزكام (Rhinovirus) عن طريق وضع نقط في الأنف، وخلال الخمسة الأيام التالية، راقب الباحثون ظهور أعراض الزكام عند المتطوعين، وكذلك قياس الأجسام المضادة ضد الفيروس في الدم، وزراعة إفرازات الأنف، مشيراً إلى أن النتائج أتت مثيرة جداً، حيث وجد الباحثون أن النوم لساعات أقل، يزيد احتمال الإصابة بالزكام، وأن الإصابة كانت أعلى بثلاث مرات، عند الذين ناموا أقل من سبع ساعات، مقارنة بالذين ناموا ثماني ساعات أو أكثر، موضحاً أن للسهر أضرارا صحية على الجهاز التنفسي والدوري، خاصةً عند المصابين بمشاكل التنفس المزمنة، فقد يزيد السهر من ظهور بعض الأعراض، وقد أظهرت الأبحاث أن توقف التنفس أثناء النوم، يؤدي إلى "الشخير"، وبالذات عند السهر أو الإجهاد، أما بالنسبة للقلب والجهاز الدوري، فإن بعض الدلائل تشير إلى أن السهر، قد يرفع ضغط الدم.