يعد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط المولود في كونسبرج في ألمانيا في عام 1724م واحداً من ألمع فلاسفة عصرالتنويرالأوروبي ،إذ لم يشهد تاريخ الفكر كما يقول (وِل ديورانت) في كتابه ( قصة الفلسفة) فلسفة بلغت من السيادة والنفوذ في عصر من العصور ما بلغته فلسفته من السيادة والنفوذ والتفوق على كافة الأفكارفي القرن التاسع عشر، فبعد ستين عاماً من التطورالمنعزل للفكرالعقلاني المتجرد المؤمن بسيادة العقل كما هو لوحة بيضاء تكسوها الأحاسيس والأفكارالخارجية مجرداً من العقائد والإيمان بالدين، أتى كانط ليعيد إلى الإيمان بالعقائد والأديان اعتباره بشكل مستقل ومجرد عن العقل النظري، لقد كانت أوروبا وقتها تتماهى مع مكتسبات التنويربفضل إسهامات فولتيروفرانسيس بيكون وسبينوزا وكوندورسي وغيرهم من رجال عصرالتنوير وأهمها سيادة العقل العملي، بحيث انتهت إلى الثقة العمياء بالقوة الكامنة بالعلم والمنطق في حل كل ما يواجه العالم من مشاكل والتدرج بالإنسان بفضل هذه الآليات العقلية نحو الكمال المطلق، هذه الثقة العمياء التي تأسست على حاكمية ومطلقية العقل في الحكم على الأمور وتقرير ما يجب عمله تجاه الظواهرتأجلت على ما يبدو إلى حين عندما ظهركانط ليوقظ العالم الأوروبي من نومه العقائدي وليهزه في بدهياته المنطقية والعقلية بفضل معطيات كتابه المشهور( نقد العقل الخالص)، الذي أدى بفلاسفة مشهورين كانوا قد سلموا بمطلقية العقل النظري وسيادة أحكامه إلى تغيير آرائهم بصورة تامة بعد قراءته ، إذ سلم نيتشه بكل ما في ثنايا الكتاب واعتبرما جاء به من ثورة عقلية قضية مسلماً بها، أماشوبنهور فقد اعتبرالكتاب على أنه أعظم ما أنتجه الأدب الألماني وأكثره شهرة ، وكان له رأي مشهورمفاده أن الإنسان يبقى طفلاً في معرفته حتى يقرأ كانط ويفهمه، وأتى هيجل بعدهم ليربط الفلسفة كلها بمعرفة كانط إذ قال ( لكي يكون المرء فيلسوفاً فلا بد من أن يدرس كانط).

ما هو يا ترى فحوى هذا الكتاب الذي حوى خلاصة تجربة كانط الفلسفية وأدى إلى تغييرخارطة أوروبا الفكرية والفلسفية؟ لكي ندرك ذلك فلا بد لنا من معرفة شيءٍ عن فلسفة التنوير التي كانت سائدة قبل كانط والتي انتهت إلى تأييد كامل للعقل ومن ثم تأييد المذهب المادي على إثره ممثلة بفلسفة فولتيروبيكون وسبينوزا، وبالمقابل فقد نهض الدين والعقائد في أوروبا التي كانت تتلقى ضربات العقل لتطالب بإستجواب هذا العقل المحض الذي أجهضها بتقديسه للمادة باعتبارها الأساس في كل شيء، استجوابات من قبيل التساؤل عن إن كان هذا الحاكم مطلق الحقيقة ومنزهاً عن الزلل أم أنه كباقي الأعضاء الإنسانية محدود بحدوده التي لايستطيع أن يتعداها، لقد كانت الفرصة سانحة لنقد ومحاكمة هذا العقل الذي نصبه فلاسفة التنوير حاكماً على كل شيء، وهاهي جحافل الفلسفة الكانطية تتأبط الآلية المناسبة للقيام بهذه المحاكمة، وقبل ذلك فقد مهد فلاسفة كبارمن طراز(جون لوك )و(ديفيد هيوم) و(جورج بركلي) الطريق إلى الاختبار المقررللعقل عن طريق الفلسفة الكانطية فيما بعد، حيث قررلوك أن جميع المعارف تأتينا من التجارب عن طريق الحواس، وأن لاشيء في العقل سوى ما تنقله الحواس، وبالمقابل فإن العقل ما هو إلاصفحة بيضاء عند ولادة الإنسان خالياً من كل شيء بحيث تأخذ الحواس والتجارب في الكتابة على هذه الصفحة البيضاء، وترتب على هذه النتيجة التي قال بها لوك أن لا معلومات فطرية غريزية يحتويها العقل، وأن هذا العقل يعتمد على ما تزوده به الحواس فقط، وأنه باعتبارأن الأشياء المادية هي التي تؤثرعلى حواسنا، فإننا لانعرف شيءاً سوى المادة، وهو ما سيؤدي إلى قبول كامل للمذهب المادي، لأنه إذا كانت الحواس هي وسائل نقل الأفكار، والعقل لايحتوي على أية معلومات أومعارف فطرية عندئذٍ تكون المادة بالضرورة هي التي يستمد منها العقل آراءه وأفكاره ، ولكن جورج بركلي (1648 ـ 1753) خالف لوك في النتيجة التي وصل إليها بخصوص المادة التي يستمد منها العقل معارفه عن طريق الحواس، حيث نادى بأن المادة ليست سوى صورة أوحالة عقلية لاوجود حقيقياً لها وضرب مثلاً بالمطرقة التي قال بأنها مادة صرف وتبدو فيها المادة بشكل واضح ولكن لو أنها أصابت يداً مشلولة بطرق مستمرمتواصل عليها فلن تثير أية إحساسات أوإهتمامات، وهوما يؤدي إلى القول بعدم وجود حقيقي لهذه المادة التي لا تعدو أن تكون حالة عقلية تعتمد على التصورات أوكما قال (ول ديورانت) مجموعة من الذكريات ، إن جميع أنواع المادة وفقاً لبركلي حالة عقلية والحقيقة الوحيدة التي نعرفها مباشرة هوالعقل، إذ نحن لاندري عن الشيء الخارجي إلا الإحساسات التي تنبعث إلينا منه، والأفكارالتي تتولد عن هذه الإحساسات عند وصولها إلى الذهن وهذا الإتجاه الفلسفي الجديد أدى كما قلنا إلى هدم الأساس التي اتخذتها فلسفة لوك ألا وهي المادة التي تصنع المعارف للعقل وتنقلها الحواس.

(يتبع)

abalkheiL@alriyadh.com