هذا ما يجعلني أقترح أن نقوم بعملية «خصخصة» للتعليم العالي الحكومي، ففي ذلك فرصة حقيقية أولاً لأن نحصل على تعليم «مستقل» و«حر»، والاستقلالية والحرية في التعليم ركنان من أركان صناعة الإبداع، كما أن ذلك سيؤدي إلى «فلترة» المؤسسات التعليمية الخاصة التي تبدو تجارية أكثر منها أكاديمية،
(1)
منذ فترة طويلة وأنا أفكر في حال التعليم العالي في المملكة وكيف يمكن أن يتطور، وخلال هذه الفترة لم أجد وسيلة للتطوير أنجع من «خصخصة» التعليم العالي، وأنا هنا لا أقصد تشجيع الجامعات الخاصة بقدر ما أقصد تخصيص التعليم العالي الحكومي نفسه. على أن هذه الفكرة تبدو غريبة أو صعبة (لا أعلم بالتحديد) عند البعض أو انهم لا يتصورون أن يكون هناك تعليم لا ترعاه الدولة، وهذا بالطبع حق مكفول لهم، فهم قد تعودوا على أن تكون الدولة مسؤولة عن التعليم. على انني هنا سأحاول أن أبين وجهة نظري حول تخصيص التعليم العالي الذي يمكن أن يتطور عندنا، لأني أجده الحل الوحيد للمستوى المتدني لمخرجات جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية مع ان ميزانيات التعليم كبيرة ويفترض أن تكون مؤثرة وتقدم تعليماً متميزاً، وهو ما يشير إلى الهدر المالي الكبير دون وجود نتائج مرضية. وأنا هنا لا أريد أن أكون قاسياً على تعليمنا العالي الحكومي، فجميعنا تعلّم واكتسب معارفه منه (وأقصد هنا منهم من جيلي ومن الجيل الذي سبقوني وكثير من الذين أتوا بعدنا) إلا ان الوضع يبدو انه قد تغير أو تعقد أو حتى أصبح «خارج إمكانات المؤسسة التعليمية الحالية»، وهذه سنة من سنن الحياة، أن تتغير الأمور وتتبدل وأن يكون لكل مرحلة خصوصيتها ومؤسساتها وآلياتها التي تعمل من خلالها.
(2)
سؤالي الأزلي هو لماذا لا يوازي ما يخصص للتعليم من ميزانيات جودة مخرجاته؟ أين يكمن الخلل؟ وأنا هنا لا أدعي انني أعلم كثيراً عن هذا الخلل إلا انني استطيع أن اتحدث عن تجربتي الشخصية (بحكم أنني أحد الأكاديميين) وعن بعض ما أسمعه من زملائي في كل الجامعات السعودية. أذكر أنني سألت أحد الزملاء المخضرمين (يعمل أستاذاً في جامعاتنا الكبرى) عن حال الجامعة فأجابني انها «أكبر ثانوية في العالم». ربما يكون في هذا الوصف مبالغة بعض الشيء إلا اننا يجب ان نعترف اننا نواجه مشكلة «جودة» في تعليمنا العالي رغم اننا نستثمر أموالاً طائلة ويوجد بيننا من المتعلمين المتخصصين الذين تعلموا في أرفع الجامعات في العالم دون أن يستفاد منهم فعلاً، بل كيفوا وأصبحوا تروساً في آلة لهم إيقاع وصوت واحد. كل هذا يمكن أن يعلق على شماعة البيروقراطية وتحييد البحث العلمي، والتقليل من دور «المعلم المتميز» وغياب حافز الاجتهاد، وأهم من ذلك الخلل الكبير في إدارة التعليم الجامعي وضمور الإحساس «بالمؤسسة» في الجامعة وما يعني ذلك من غياب شبه كامل للمناخ الأكاديمي الذي يحث على الحوار وفتح قنوات بحثية وفكرية جديدة بين الأساتذة والباحثين. ولا استطيع أن أقول هنا انه لا يوجد لدينا ميزانيات كافية لتحقيق كل هذه الأركان في مؤسسات التعليم العالي، فأنا اعتقد أن الأمر مرتبط بغياب التخطيط والتوزيع المتوازن لهذه الميزانيات.
(3)
استضافنا مؤخراً سعيد سلمان (مالك ورئيس شبكة جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا، وكان وزيراً للتعليم العالي ورئيساً لجامعة الإمارات)، أنا ومجموعة من الأكاديميين من استراليا وسويسرا وإيران، ودار بيننا حوار خاص حول التعليم والرؤى المستقبلية حوله. والدكتور سعيد بحكم تجربته الطويلة، يؤكد دائماً «اننا لسنا بحاجة إلى جامعات جديدة ولكن إلى رؤية جديدة». وأنا هنا اتفق معه في حاجتنا الماسة إلى رؤية جديدة على أن هذا لا يقلل من حاجتنا إلى جامعات جديدة. ومع ذلك فإن هذا ليس بيت القصيد، إذ ان الرؤية الجديدة أصلاً بحاجة إلى مؤسسات وروح مجتمعية متوقدة وانفتاح فكري وتحرر من قيود البيروقراطية على المستوى الإداري العام. وهو ما علق عليه البروفيسور(مارك) (من المعهد الفدرالي للتقنية في زيورخ بسويسرا)، الذي أكد انه حتى في سويسرا كان هناك إشكالية تعليمية نتيجة لتفكك «الجامعة» أكاديمياً وعزلة كل فريق عن الآخر وأكد على أهمية «النقد» في التعليم، وان التعليم السويسري وعى مشكلة الانفصال والتجزؤ في عملية التعليم، وكيف ان المسؤولين طوروا مجموعات مفكرة thank tanks لتطوير التعليم. ولعل هذا ما يفكر الدكتور سعيد أن يعمله في جامعة عجمان فقد ذكر لنا انه أنشأ ما سماه «بيت الحكماء والنخبة»، وهو بيت للتفكير سوف يتجمع فيه المفكرون والحكماء من كافة التخصصات في الجامعة وخارجها لمناقشة القضايا التعليمية ووضع خطط استشرافية للمجتمع.
(4)
ويظهر لي أن هذه الرغبة في «تقارب المثقفين» المهتمين بالتعليم نحتاج لها وأجدها إحدى نقاط الضعف التي يعاني منها تعليمنا الحكومي. سؤالي دائماً كان هو لماذا لا نستطيع في الجامعة إيجاد مثل هذا «البيت»، وجوابي هو من سيتخذ القرار لإيجاد مثل هذا البيت، ومن هم الذين سيكونون أعضاء فيه؟ فقد تعودنا أن من يشكل مثل هذه المجالس و«البيوت» يعينون حسب «المسافة» التي تفصلهم بالمسؤول، ولا يختارون لإنجازاتهم أو لكونهم «حكماء ومفكرين» بل لأنهم من «الدفعة» أو «الشلة» أو من «العشيرة» وتدخل فيها المنطقة والبلدة وتضيع الحكمة ويختلط الفكر في كل هذا، ويصبح «بيت الحكماء» بيتاً لموظفين ومثقفين شكلاً أو تعييناً، فارغين مضموناً. وإذا تخلصنا من كل هذا وقعنا في «أحادية الرأي» أي ان الحكمة هي ان توافق «المسؤول» في كل شيء والاختلاف في الرأي هنا يعني الخروج عن «بيت الحكماء»، فالمطلوب هو أن تؤكد رأي هذا المسؤول أو ان تسمعه رأيه بصوتك.
(5)
في ذلك اللقاء، كان هناك شبه إجماع على أن المستقبل هو للتعليم الخاص في المنطقة العربية رغم أن الدول الغربية لم تطور فكرة التعليم الخاص بشكل واضح وجل اعتمادها على التعليم الحكومي العام. فدولة مثل استراليا لا يوجد بها إلا جامعتان خاصتان هما (نوتردام وبوند)، كما انني لا أذكر ان هناك جامعات خاصة كثيرة معروفة في بريطانيا، وفي الولايات المتحدة يعتمد التعليم بشكل أساسي على التعليم الحكومي مع وجود جامعات خاصة عملاقة، ويبدو أن النموذج الأمريكي هو ما نفضله نحن في الخليج ولكن بصورة شكلية إذ اننا فكرنا في التعليم الخاص كبديل للتعليم الحكومي وليس مكملاً له. ولا أعتقد ان أحداً ينكر أن الصورة التي يروجها المستثمرون في التعليم الخاص هي ان التعليم الحكومي لم يعد كافياً وربما لم يعد قادراً على تقديم الجودة التي يحتاجها سوق العمل. وبالتالي نجد كثيراً من المؤسسات الأكاديمية الخاصة تُفتتح هنا وهناك دون أهداف واضحة ودون شخصية أكاديمية تتشكل وتنمو مع الزمن. كما ان خطط مؤسسات التعليم الخاص قائمة على دعم الصورة السلبية عن التعليم العالي الحكومي وليس على انها فعلاً ستقدم تعليماً متميزاً. وفي اعتقادي ان المنافسة هنا ستكون غير عادلة وسيكون التعليم الخاص مجرد صورة وهمية غير فاعلة ولن يحدث التغيير الذي نتمناه. وستكون الجودة وهمية لأنه تعليم لا يسعى إلى الاستقلالية والبحث عن معايير عالمية، بل هو تعليم يستمد معاييره ووجوده من السلبيات الموجودة في التعليم العام.
(6)
هذا ما يجعلني أقترح أن نقوم بعملية «خصخصة» للتعليم العالي الحكومي، ففي ذلك فرصة حقيقية أولاً لأن نحصل على تعليم «مستقل» و«حر»، والاستقلالية والحرية في التعليم ركنان من أركان صناعة الإبداع، كما أن ذلك سيؤدي إلى «فلترة» المؤسسات التعليمية الخاصة التي تبدو تجارية أكثر منها أكاديمية، فنحن لسنا بحاجة إلى مؤسسات ضعيفة بقدرما نحتاج إلى مؤسسات منافسة.
الإشكالية هنا أن البعض يرى أن تخصيص التعليم الحكومي مسألة صعبة للغاية ولا أحد يجرؤ أن يقدم عليها لأنها مسؤولية كبيرة. كما أن من حق أي إنسان على أرض الوطن (الغني والفقير) أن تتاح له فرصة التعليم العالي، ولا أريد هنا أن نحقق مقولة الرئيس الأمريكي السابق (جيمي كارتر) الذي يرى أن أولاد الأغنياء فقط هم من يحظون بتعليم متميز لأنهم قادرون على ذلك، فالذي يظهر من دعوتي لتخصيص التعليم العالي الحكومي، هي اتاحة الفرصة فقط للقادرين مالياً للحصول على تعليم متميز، إذن كيف يمكن تحقيق خصخصة التعليم العالي وفي نفس الوقت إتاحة الفرصة لكل أبناء الوطن للحصول على تعليم متميز؟
(7)
سوف أبدأ الإجابة بالحديث عن الميزانيات الضخمة التي تخصصها الدولة للتعليم العالي، وسوف افترض أن مؤسسة التعليم العالي تحولت إلى مجرد هيئة تنظم عملية التعليم وان كل جامعة أصبحت مستقلة ومرتبطة بالدولة فقط من خلال اتباع السياسات العليا التي تضعها الحكومة في خططها السنوية والخمسية والاستراتيجية. كما اننا نستطيع أن نقترح أن تقوم هذه المؤسسة بتقديم الدعم المالي للجامعات من خلال حساب تكلفة الطالب في كل تخصص وتقديم دعم اجمالي يوازي 50 - 70٪ من تكاليف الطلاب المسجلين في كل جامعة كل عام بحيث تقوم الجامعة من خلال استثماراتها الخاصة وبعض الرسوم الرمزية من بعض الطلاب (سواء من الداخل أو الخارج) ومن البحوث التي يمكن أن تقدمها الجامعة للقطاع الخاص والحكومي بتغطية الجزء المتبقي من الميزانية المتوقعة للجامعة. بهذه الطريقة لا نفقد الدعم الحكومي للتعليم العالي كما اننا سوف نحصل على جامعات مستقلة ومفكرة وتبحث باستمرار عن زيادة قدراتها الاستيعابية ورفع قدراتها الأكاديمية لأن التنافس هنا سيكون على الجودة (أو على الأقل هذا ما أتوقعه).
(8)
ويبدو أن الأمر ليس بهذه الصعوبة التي قد يراها البعض (إذا ما توفرت الإرادة)، فخصخصة التعليم العالي التي أقترحها تعتمد على دعم الدولة من الناحية المالية ولكن من أجل خلق مناخ تنافسي على الجودة والعدد ونوعية التخصصات، وفي نفس الوقت تجعل من الجامعة مؤسسة مستقلة يحدد سياستها «مجلس أمناء» مستقل، يتشكل من ذوي الخبرة والدراية والباع الطويل في العمل الأكاديمي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي ..
هذه الفكرة ليست جديدة وهي مطبقة في أكثر الدول الغربية، إذ أن الجامعات هناك مستقلة وشبه خاصة لأن الناس تدفع ضرائب في تلك الدول وحكومية في نفس الوقت، لأن الحكومة تقدم دعماً كبيراً لميزانيات تلك الجامعات. وفي اعتقادي أن مثل هذا الوضع قد يناسبنا في المملكة كوننا فعلاً ندفع الكثير على التعليم إلا أننا لا نجد جودة تضاهي ما ندفعه، يضاف إلى ذلك وجود مناخ من «الاتكالية» و«الشللية» وغياب التنافس بين الجامعات نتيجة لهذا الاعتماد الكامل على ميزانية الدولة وهو ما شجع في نفس الوقت على نشوء تعليم خاص ضعيف ودون أهداف واضحة، وحتى يتم فعلاً خصخصة أو إنعاش أو ترميم التعليم العالي في بلادنا فسنظل ندور في هذه الحلقة المفرغة من غياب الجودة والهدر المالي الكبير.
1
محمد عايش
2005-03-29 22:25:51الدكتور مشاري النعيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
تصدق بالله قرءت مقالك من موقع ايلاف ورجعت للقراءه مره اخرى بجريدة الرياض للتمعن والتفكير فيه مره ومررت ووجدت ان زمليلك حين قال ان جامعاتنا اكبر ثانويه بالعالم ليس بها اي مبالغه انها الحقيقه
وتشخيصك للمشكله ممتاز واقتراحك الحلول لها اكثر من ممتاز بس اتمنى من اى جهة تاخذ اقتراحك وتتيناه للمصلحة الطن والمواطن الى الامام يادكتور ودمتم سالمين
وتقبل اطيب التحياالطيبه
المتابع لكتاباتك / محمد عايش
2
almar
2005-03-27 06:16:25I appologize for the use of english but i am a saudi student in the united states and i don 't have arabic. I do agree that academic institutions should be private. However, you are suggesting that the government should supply 50-70% of the cost while the institute covers the rest. By that most saudi youth will be garanteed a seat in the university. I disagree i studied for one year in the computer and information sciences college in King Saud University from my experience i found that more than 65 % of the students are "D" students and fail many courses. Such students waste goverment money and efforts. I believe only smart or hard wroking students should be offered seats in t he university for free. All other students should pay tuition. In words the university should fund itself. The goverment is waisting its money by offering seats to many number of youth who don't deserve them. In Minnesota where I moved recently (alhamdellah) students take classes seriously and work hard. Of course there are careless students but atleast they are paying the university unlike saudi arabia where the government pays for many "D" and "F" students. I agree that the university should be private but it should require tuition similar to the american college tuition and the competitive students or students who maintain a high GPA in the university should be offered free education. By that the university will be independent from the government hence more free and more productive.