الكسرة فن شعري ظهر وشاع في منطقة ما بين الحرمين الشريفين, ويغني في ملاعب الرديح في منطقة ينبع وفق ألحانه الشجية, وفي ميادين الرديح تعتبر الكسرة وحدها شعر حواراته. ويغنيها آخرون فرادى في ساعات العمل والراحة. وتتسم الكسرة بتكثيف المعنى وإيجاز أبياتها بحيث لا تتجاوز البيتين، وأبلغها ما لا يحمل أكثر من فكرة. وتستعذب الكسرة في المراسلات بين الشعراء وفي التعبير عن مشاعر خاصة، ومعان رفيعة، ولأهمية بناء الكسرة قل في الماضي أن يطرقها من لا يجيد تقاليدها تهيباً من النقد واعترافاً بجدة التجربة. ولمن رغب في مزيد من التفصيل يرجع إلى كتاب "ألف كسرة وكسرة" وكتاب "أهل الكسرة" جزءان وفي الكتابين تفاصيل ونماذج عن الكسرة. ومما حمله لنا الرواة من طرائف الكسرات ونوادرها مما لم يسبق لي طرحه هنا نماذج لا تخلو من العذوبة والتسرية عن النفس, واستحضار مشاهد اجتماعية من حياة الناس في الماضي وعبر التحولات التي تمر بالمجتمعات. ومن ذلك أن رجلا عاش في القرية صباه، وعانى من شظف العيش فيها ثم انتقل إلى المدينة وعاش تقاليدها ونعومتها فترة من حياته ثم عاد إلى القرية، وشق عليه أن يعانق هذه الحياة فقال:
في دياركم صرت انا ما أطيق
تركت مالي وماليّه
مشيت انا من السعة للضيق
واحفيت أقدام رجليه
فيجيبه عن تنكره لمراتع صباه شاعر آخر بقوله:
اسأل وفكّر عساك تفيق
وتنيّر الدار الاصلية
إنته تعلّمت جَنْي الريق
نسيت خبط الرتيعية
وهو يذكره بماضيه حينما كان يرعى البهم ويخبط الرتيعية، وهي شجرة شوكية لا ترتفع عن الأرض كثيراً، ويستخدمها أصحاب العنف الأسري لتقليب الأطفال على فروعها لمعاقبتهم وتأديبهم وكان الشاعر الأول ممن تعرض لذلك في صباه.
وقرأ أحدهم أشعار العذريين وكان في أسرة قروية فوقع قلبه في الحب, فزهد في الحياة، وخلد إلى الراحة والعزلة مضنى يعاني لوعة الغرام متخليا عن واجباته الأسرية ملتمسا العذر من والده، الذي قال له:
لا تحسب الحب دَنْدرمة
والاّحلاوة ثلاث اشكال
قم للبقر فت له ضرمة
حبلين والا ثلاث حبال
أما الذي لم يجد ما توخى من عطف من يحب وعدم التناغم معه, حين تلقى منه صدمة عنيفة لم يجسدها حين عبر عنها بغير هذه الكسرة:
سيدي ضربني بجذبة جذع
جذبة ولا هو مسَلِّكْها
والله ضربني على آخر ضلع
واليا سموعي ما احرِّكْها
وهو تعبير عن القسوة والعنف في الرد.
أما الشاعر الذي لامه أصدقاؤه في محبه بأنه لا يستحق محبته, فلا هو بالجميل ولا هو بالأنيق فأجابهم:
أحب سيدي وهو لابس
وأحب سيدي بجرموده
وان قالوا الناس ذا يابس
أشوف أخضر انا عوده
ويا أخي ما للناس وما يهوى الآخرون ألم يقل الشاعر:
تعشقتها شمطاء شاب وليدها
وللناس فيما يعشقون مذاهب؟
وإذا قال أحد العلماء لجلسائه مازحاً: "من لم يتزوج مصرية ما أحصن" وحرف هذا النص إلى دمشقية ولبنانية وعراقية وحجازية ونجدية وتكرونية فكل محرف يعبر عما لقي أو عما أعجبه، ولا لوم، ولكن شاعراً قرويا اضطر لمراجعة طبيب القرية وهناك وجد العناية الفائقة من إحدى الممرضات فقال:
يا ما رماني سهم واجنب
واليوم علق السهم فيّه
اللي رماني طفل ما انجب
يحمل صواريخ ذرية
كان ذلك مع اطلالة العصر الجديد، ظهور الصواريخ الذرية واستقدام الكوادر الطبية من الخارج، وامتداد الرعاية الصحية إلى القرية، وقول الشاعر طفل هو تعبير عن صغر سن الممرضة وتقدم سن الشاعر الذي بث شكواه إلى أصدقائه فتلك ظاهرة غير مألوفة في القرية أن يتلقى الناس العناية الصحية من فتاة جميلة مغتربة. وكان رد ابن صديق ما يلي:
ما دمت شايب وهوّه شب
والفرق تسعين في المية
أشوف ماله لزم تنشب
إلاّ إذا كان مصرية
فهو عندها لا يلام.
ومن المداعبات الرقيقة انتقاد الشاعر من يتزوج من اثنتين, فإن العدالة المطلوبة بينهما لن تتحقق لذا يقول الشاعر:
مغبون من يأخذ الثنتين
ليا مات ما يدخل الجنة
القلب ما ينقسم قسمين
واصل السبب كلها منّه
فيجيبه الشاعر الرقيعى معترضا:
ذا النص يا اللي حكمت من اين
خالفت الاحكام والسنة
من اجل ترضي سُوَيْد العين
تغيّر الحق وتكنه؟
والواقع أن ظاهرة عمل المرأة في القرى والأطراف والمدن الصغيرة لها انعكاسات على الحياة فقد أشعلت ذائقة الشعراء لسان حال المجتمع وموثقو تحولاته لينسجوا من عالم الخيال كسرات تعبر عن ثقافتهم ورؤاهم لما يحدث, وكما جاء عنهم في القرآن الكريم: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون). وهو يخلع رؤيته على ما لا يحدث, وكل شاعر يطرق المستشفى أو يشهد غدو ورواح المدرسات القادمات من خارج البلاد لابد وأن يدون شيئاً عن خلجاته وانطباعاته, وكانت الضوابط المصاحبة لهذه التطورات أكبر دليل على أن كل ما قيل إنما هو من نسيج الخيال ومداعبات الشعراء.
وكان في مستشفى هذه البلدة الساحلية التي أصبحت اليوم مدينة كبيرة لا يشعر أهلها بما يطرأ عليها من عوامل النهضة, كان فيها ممرضة هندية مسلمة مخلصة في عملها ومتفانية في أدائه, وذات جمال باهر واسمها روفي, وكان رئيسها من بني جلدتها شديد التمسك بدينه وله لحية كثة, ولقد قال أحد الشعراء:
لا يا عيون الفتى شوفي
في منظر الزين والخدين
انا هوى خاطري "روفي"
لطيف جسمه وشكله زين
فأجابه أحدهم:
قبلك أنا قلت وا لوفي
وذرفت لاجله دموع العين
وانا من ابو دقن يا خوفى
إنه بيلعب على الحبلين
وهاتان الكسرتان ليستا من الكسرات الجادة ولكنهما من نفل القول, ومن باب المداعبة, ولقد توقف سيل الابداع في هذا المجال بعد أن تعود الناس قدوم العمالة حتى إلى منازلهم.
وكانت الدولة تختار من عقلاء مثل هذه النواحي لتسند إليهم مهام التنسيق فيما بين مؤسساتها والناس, وهؤلاء لم يسلموا من ألسنة الشعراء, فقد قال أحدهم مازحا لأحد المنسقين:
خابرك سيّة ومتخفّى
وتخالط الناس بالاصلاح
عندك حرس جن ما تغفّى
تسهر إلى فالق الاصباح
وقال آخر:
يا ليت الاحكام في يدّي
وانقلك ديرة بعيد اشياح
انته وابو دقن والصحي
حتى البلد منّكم ترتاح
وأيضاً هذا من باب المداعبة والمزاح فكل من الشعراء والمسؤولين معروفون بالصلاح والتقى.
1
تركي وووبس
2009-10-15 03:02:47امتعت
يعطيك العافية
2
سعود
2009-10-15 02:17:02لا يدرون هيئة حقوق الإنسان عن هذه الكسرة "مادامك شايب وهو شب" ترى بتروح فيهاإ
أما كسرة "جرموده" فلا يدرون عنها الهيئة، أكيد بتروح فيها وطي.
تحياتي يا أستاذ عبدالرحيم
3
سعود
2009-10-15 02:09:22ما دمت شايب وهوّه شب
والفرق تسعين في المية
أشوف ماله لزم تنشب
إلاّ إذا كان مصرية
فهو عندها لا يلام.
4
عيون المها
2009-10-15 02:01:25صدق صاحب الكسرة في انتقاده وذمه لتعدد الزوجات حين قال:
مغبون من يأخذ الثنتين
ليا مات ما يدخل الجنة
القلب ما ينقسم قسمين
واصل السبب كلها منّه
والشاعر الآخر اللي يفتي بأن هذا يغارض السنة هو أسبه بمشايخنا اليوم، وكأن التعدد فرض أو ركن من أركان الإسلام والعياذ بالله.
مقال ممتع كما عودتن
5
حمد
2009-10-15 01:50:04الكسرات فن جميل وتراث عريق أين منه المؤسسات المعنية بالتراث الشعبي
6
dandon
2009-10-14 21:41:25لتعليق رقم 7،للشاعر أمسية في نادي الرياض الأدبي بالملز يوم الأحد الموافق
18/10/ 2009
7
النوخذه
2009-10-14 21:28:24سبحان الجمعنا بغير ميعاد
فرحنا والفرح بالخير ينعاد
أحباب وتلاقينا 00 تعاتبنا تراضينا
سبحان الجمعنا فى (الخزامى )
من غير ميعاد
8
داحمدالماضي999
2009-10-14 20:56:58الوقت واحد وش الاسباب
متساوي ٍ وقتك ووقتي
في صفحة ٍ كل ابوها احباب
وجريدة ٍ علمها ثبتي @
9
النوخذه
2009-10-14 20:38:54قال شا عر عربجى آخر
وين أبلقا ديرة مابها شياب
و لا داجو النواب بعصيهم فيها
10
داحمدالماضي999
2009-10-14 20:38:06غالي وعنه الخطا ممنوع
لنا ومنّا وحنّا له
بالقلب والقالب وبالنوع
ما شفت شرواه وأمثاله
وأن قالوا ستايله منزوع
أقول ومركّب بداله
لكنّ يا منّفذ المشروع
تراه لازال يبغى له
أن طعتني كاتب الموضوع
تحطّه بخانه لحاله@
11
أبونعيم
2009-10-14 19:33:25وعلى ما قال الشاعر العربجي:
يا ليت ما في البلد عسكر
ولا مباحث جنائية
لا خذ حبيبي وأروح أس..ر
بين الرياض والقويعية
... الخ
12
محمد
2009-10-14 19:16:36شكرا ياستاذ
انا مع تعليق 8 ناصر
الكسرات فن جميل وموروث شعبي نفتخر فيه لكن اهانه الصغار بكلماتهم الشاذه لابارك الله فيهم
13
زرقاء اليمامة
2009-10-14 19:15:09مع الأسف تتميز الأشعار والكسرات في الماضي بشاعرية نفتقدها اليوم، كيف يمكن أن نسترجع مثل هذه الروح والمشاعر الجميلة وحياتنا اليوم جافة وتفتقر للتلقائية والبساطة التي نلمسها في هذه الأشعار.
سلمك الله
14
ناصر بن محمد
2009-10-14 18:34:23فن الكسرات فن رائع ولكن للاسف صغار القوم ادخلوا كسرات شاذة وموذية لسمع بأدخلهم كلمات بذئية..!!
15
راعي الربابة
2009-10-14 18:16:53أتابع مقالاتك منذ فترة سلمت يداك، أقترح أن تتولى إعداد موسوعة عن الأدب الشعبي في الجزيرة العربية، أو أن تجمع مقالاتك في كتاب لما تتضمنه من جهد علمي واضح ورؤية فنية مبدعة، وأرجو أن تفيدنا عن محاضراتك الأدبية أو الأمسيات التي تشارك بها حتى نتمكن من الحضور.
16
النوخذه
2009-10-14 16:44:00شكرا استاذ : عبد الرحيم مقال رائع وممنع عن فن الكسره وفى الجليج
العربى فن يسمى الزهيرى يعبر عن ضروب المعاناة وشكوى الحال , وقسوة
العيش وصعوبة الحياة , والغربة وغدر الزمان وجحود الخلان
زاد العنا بالضمير وما شفت راحلى
والهم بحشاى نسانى اللى راح لى
يوم شفت عيسهم يوم النوى راحلى
ناديت ياجيرتى ابكم غرامى وفى
وعلى باب المذله من جفاكم وفى
بالله سيروا على مسراى ياهل الوفى
لانى ضعيف وضالع بينكم راحلى
17
محمد الصبحي
2009-10-14 16:00:58السلام عليكم و رحمة الله و بركاته...
جزاك الله خير يا أستاذ عبدالرحيم...
على هذا المقال فعلا كانت اكثر سمراتنا على الكسرات الله يرحم ايام الوالده لاطفشت تقهويت معها وهاتك ياكسرات... ومنها
مشمش رمالي الهوى.. يحسبني اراعيلو
ساكن بشرق البلد.. يبعث مراسيلو
وحياة تربة نبيّك لو كان مكان القمر ماعدت اراعيلو...
18
مخاوي الذيب
2009-10-14 15:24:55عافاك أيها الكاتب القدير على كتاباتك الجميلة وهذه الأبيات التي تدل على حرية التعبير في زمن مضى عن المشاعر الإنسانية الفطرية ورحابة صدر الأولين في تقبل الدعابة التي تحملها هذه الأبيات.
19
راعي الهيلا
2009-10-14 15:14:54كسرااات ايام خالد عكش الله يرحمه والعنزي فهد الثبيتي وغيرهم
على ايااام الددسن 85م يوم كنا زحف وفرفرة ودوران في الشوارع..
20
badawi
2009-10-14 15:08:48الله يعطيك العافية على المقال الرائع وهذه الأشعار الجميلة التي تؤكد أن النفاق وتصنع الدين والتقوى من الأمور التي يعاني منها مجتمعنا منذ القدم.
21
بدر 2009
2009-10-14 14:26:12طرائف جميلة...يعطيك العافية