حبس مروان بن الحكم، وهو والي المدينة غلاماً من بني ليث، في جناية جناها بالمدينة، فأتته جدة الغلام - وهي أم سنان بن خيثمة المذحجية - فكلمته في الغلام، فأغلظ لها، فخرجت إلى معاوية، فدخلت عليه فانتسبت له فعرفها، فقال لها: مرحبا يا بنت خيثمة ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشنئين قربي، وتحضين عليّ عدوي!

قالت : يا أمير المؤمنين؛ إن لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرة، وأحلاماً وافرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا ينتقمون بعد عفو، وإن أولى الناس باتباع ماسن آباؤه لأنت. قال: صدقت! نحن كذلك، فكيف قولك:

عزب الرقاد فمقلتي لا ترقد

والليل يصدر بالهموم ويورد

يا آل مذحج لا مقام فشمروا

إن العدو لآل أحمد يقصد

هذا عليّ كالهلال تحفة

وسط السماء من الكواكب أسعد

خير الخلائق وابن عم محمد

إن يهديكم بالنور منه تهتدوا

ما زال مذ شهد الحروب مظفراً

والنصر فوق لوائه ما يُفقد

قالت : قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، وأرجو أن تكون لنا خلفاً! فقال رجل من جلسائه : كيف يا أمير المؤمنين، وهي القائلة أيضا؟

إما هلكت أبا الحسين فلم تزل

بالحق تعرف هاديا مهديا

فاذهب، عليك صلاة ربك ما دعت

فوق الغصون حمامة قمريّا

قد كنتَ بعد محمد خلفا كما

أوصى إليك بنا، فكنت وفيا

فاليوم لا خلف يؤمل بعده

هيهات نأمل بعده إنسيا

قالت : يا أمير المؤمنين؛ لسان نطق، وقول صدق، ولئن تحقق فيك ما ظننا، فحظك الأوفر، والله ما ورّثك الشنآن في قلوب المسلمين إلا هؤلاء، فأدحض مقالتهم، وأبعد منزلهم، فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قرباً، ومن المؤمنين حبا.

قال : وإنك لتقولين ذلك! قالت: يا سبحان الله! ما مثلك مدح بباطل ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا، وضمير قلوبنا.

كان والله عليٌّ أحب إلينا منك، وأنت أحب إلينا من غيرك. قال : ممن؟ قالت : من مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص. قال: وبما استحققت ذلك عندك؟ قالت: بسعة حلمك، وكريم عفوك. قال: فإنهما يطمعان في ذلك؟ قالت: هما والله من الرأي على مثل ما كنت عليه لعثمان بن عفان رحمه الله تعالى.

قال: والله لقد قاربت؛ فما حاجتك؟ قالت: يا أمير المؤمنين؛ إن مروان تبنّك بالمدينة تبنك من لا يريد منها البراح، لا يحكم بالعدل، ولا يقضي بسنة، يتتبع عثرات المسلمين، ويكشف عورات المؤمنين، حبس ابن ابني فأتيته، فقال: كنت وكنت، فألقمته أخشن من الحجر، وألعقته أمرّ من الصبر، ثم رجعت إلى نفسي باللائمة، وقلت: لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى منه بالعفو عنه!

فأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظراً، وعليه معدياً. قال: صدقت، لا أسألك عن ذنبه، ولا عن القيام بحجته، اكتبوا لها بإطلاقه.

قالت : يا أمير المؤمنين؛ وأنّى لي بالرجعة! وقد نفذ زادي، وكلت راحلتي! فأمر لها براحلة وخمسة آلاف درهم.