يملي طه حسين في بداية العشرينيات من القرن العشرين، كثيرا من المحاضرات، عن الأدب الجاهلي، على طلابه في الجامعة. ويكون الحدث المفصلي في تاريخ طه حسين، وفي تاريخ الفكر العربي، نشره لهذه المحاضرات في كتابه الشهير: (في الشعر الجاهلي) عام1926م، إذ تثور ثائرة المتطرفين، والمعتدلين من التقليديين، الذين اعتادوا على نمط من البحث (العلمي!) يربطون به ما بين حقول المعرفة، وحقول الإيمان.

هذا الكتاب الذي اضطهد طه حسين بسببه، ووصل الأمر حد اتهامه بالكفر والإلحاد كان جديدا في بابه. فأول مرة؛ يحاول باحث عربي، ممارسة البحث العلمي الموضوعي المجرد، وأول مرة يخرج الباحث العربي - كشرط للموضوعية العلمية - من التزاماته الخاصة، ويطرح بحثا عقلانيا - أو هكذا يريد له أن يكون -؛ يمكن أن يخاطب به الإنسانية جمعاء، بعيدا عن عقائدها وقومياتها، وتصوراتها الخاصة عن نفسها.

الكتاب، لا تكمن أهميته في موضوعه، ولا في مادته البحثية. وإنما تكمن أهميته في المنهجية الجديدة التي اتبعها طه حسين في مناقشة الشعر الجاهلي، بل الأهمية أو الأولوية لم تكن لمناقشة الموضوع التخصصي الخاص: الشعر الجاهلي، وإنما كانت لظرف إنتاجه. وهو الظرف الذي يتماس مع فترة أريد لها أن تكون على صورة ما؛ بعيدا عن أي سؤال؛ لأنها ستكون الأرضية - وربما المشروعية! - التي سينهض عليها كثير من مسلمات المقدس. وهنا لا يكون الخصام على الشعر الجاهلي، وإنما على ما وراء الشعر الجاهلي.

بل إن ما هو جديد - نسبيا - في هذا الكتاب، لا يتصل بالنتائج، بل ولا في الفرضيات الأولية، وإنما في محاولة استنبات المنهجية الديكارتية، في مجال البحث العلمي. وهي منهجية لابد من الفصل فيها بين اليقين الإيماني الخاص بالباحث، وبين الخطوات البحثية المجردة. فالمؤمن؛ مهما كانت درجة يقينه، ومهما التزم شروط هذا اليقين، لا يستطيع أن يثبت - في بحث علمي؛ يخاطب به الجميع، مؤمنين وغير مؤمنين - قناعاته البحثية بمقتضى يقينه الإيماني؛ لأنه وإن أقنع المؤمن، فإنه لا يستطيع أن يجعل من بحثه مشروعا إنسانيا عاما. فليس البحث العلمي الموضوعي عرضاً لقناعات الباحث الخاصة، ولميوله الدينية أو القومية أو الوطنية، وإنما هو عرض لقناعات البحث؛ من حيث هو إجراء مجرد، ولنتائج المنهجية، سواء وافقت هوى الكاتب وتصوراته الأولية، أم كانت على الضد منها.

من هنا، كان من الطبيعي أن يحدث الكتاب صدمته المتوقعة، خاصة في مجتمع تقليدي، كان يتصور البحث العلمي في غاية السذاجة، السذاجة التي تقارب تخوم الغباء العام. مجتمع تقليدي، تعود أن يحدد فيه (الباحث!) نتائج موضوعه سلفا، ومن ثم، يسعى إلى تأكيد هذه النتائج. ومن بعد هذا يخرج به، بوصفه بحثا علميا، وربما كان مشروعا أكاديميا، بل وربما كان رسالة (علمية!) ينال بها أعلى الشهادات من جامعات التقليد والتبليد.

طه حسين أراد - من خلال هذا الكتاب المتواضع - أن يحدث نقلة نوعية في الوعي، خاصة لدى الباحثين. وربما لم يكن يتصور - تمام التصور- أن الأمور في المجتمعات التقليدية متداخلة إلى هذا الحد، وأن كثيرا من أبناء هذا المجتمع التقليدي، يتصور البحث العلمي، رسالة دعوة، ووسيلة دعاية، وموعظة حسنة، يتم وسمها ب (العلمية)، ليس احتراما وتقديرا لها، وإنما لمجرد الترويج، وخضوعا للشرط الإعلامي أو الدعائي.

لقد رأى التقليديون أن الكتاب مؤامرة كبرى على التراث العربي، وهذه المؤامرة جزء من مؤامرة كبرى على الأمة، يقوم بها المستشرقون، ويدعمها المستعمرون، ويروج لها المستغربون، أمثال - كما زعموا - طه حسين. لقد تصوروا أن الكتاب يتعمد التشكيك بالشعر الجاهلي؛ ليتم من خلال ذلك التشكيك بالقرآن، وأن الغاية منه - كما زعموا - نسف الأسس التي ينبني عليها اليقين الديني. ومن هنا خرج التكفيريون الغلاة، يرمون طه حسين بالكفر والإلحاد، وينادون بفصله من عمله، بل وبقتله أيضا!.

لقد قدم أحد النواب الوفديين استجوبا للحكومة، أي لمحاسبة الحكومة على صدور مثل هذا الكتاب في عهدها، ووجود هذا الأستاذ في جامعتها، وأنها - بسكوتها عنه - تعد شريكا له في الإلحاد. وهدد عدلي باشا بالاستقالة إذا أضير طه حسين.وسوي الأمر في مجلس النواب. لكنه أثير خارج المجلس ببلاغ قدم إلى النائب العام. ولولا نزاهة رئيس النيابة، وترفعه أن يستخدمه جهلة التقليديين، وعصابات المتعصبين؛ كأداة تسلط وعنف واستبداد؛ لتضرر طه حسين كثيرا، ولتضاءلت مساحات الحرية لمن أتى بعده. ولكن، كون رئيس النيابة على قدر من الوعي بمثل هذه المؤامرة، إضافة امتلاكه عقلاً مستنيراً، مكّن طه حسين من النجاة - إلى حد كبير- من هذا الهجوم الأصولي الشرس، الذي كان - ولا يزال - يقف لأي حراك ثقافي بالمرصاد.

كان طه حسين - بطبعه - محاربا. ولهذا لم يكن الاستسلام أو التراجع أو تجنب بعض زوايا المعرفة التي تضطره إلى نقض وتقويض دعائم خطاب الجهل، ورادا عنده، حتى في الأبعاد التكتيكية التي لا تؤثر - على نحو حاد - على استراتيجية الخطاب. لكن هذا لا يعني أنه يترك الأمور عائمة أو غائمة؛ دونما إيضاح. فعندما يكون الأمر يستدعي تدخله على نحو صريح؛ كان يبادر من نفسه إلى ذلك. ثم لا يأسى بعد ذلك على من لا يقبل هذا الإيضاح، أو من يصر على عدم الفهم؛لأجل إدانة أبدية، أو موقف ذاتي خاص.

ولهذا، فعندما تصاعدت الاتهامات التي ترميه بالتكفير، وتصمه بالإلحاد، لم يتراجع أو يتضعضع، ولكنه - في الوقت نفسه - لم يسكت، ولم يترك الأمور تأخذ طريقها إلى عقول الجماهير؛ دونما إيضاح. لقد كتب خطابا إلى مدير الجامعة التي ينتسب إليها، يبين فيه موقفه الإيماني الخاص، ويطلب منه نشره في الصحف. وكان فيه بالنص: "إنني لم أرد إهانة الدين، ولم أخرج عليه، وما كان لي أن أفعل وأنا مسلم وأؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر".

ومع كل هذا التصريح، وكل هذا الوضوح، وكل هذا التفصيل الإيماني، أصر التكفيريون العُصَابيون على تكفيره، ولم يبالوا بتصريحه الواضح أنه يؤمن بأركان الإيمان إجمالا وتفصيلا، ولا تأكيده في التحقيق معه من قبل رئيس النيابة، أن ما ذكره في كتاب: (في الشعرالجاهلي) إنما كان في سياق البحث المجرد، الذي يأخذ في اعتباره أن المخاطب بالبحث قد يكون غير مسلم. ومن ثم، فإيمانه الخاص، يجب أن يكون - كما يرى - خارج المنطق الاستدلالي، الذي يجب أن يكون عقلانيا وموضوعيا في آن؛ حتى يقنع به ذوي العقول، على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم. وهذا هو الهدف أو الغاية من عقلانية أي خطاب.

طه حسين يؤكد أنه مسلم، ومؤمن، وعلى وجه التفصيل، وليس العموم. ومع هذا، يصر التكفيريون على تكفيره، وكأنهم يربحون بإخراجه من دائرة الإسلام. محبة الإسلام، تستدعي أن يكون الإنسان مبتهجا باعتراف الآخر: المتهم في دينه، أنه مسلم، وأن هذا الاعتراف يعني الانضمام طواعية إلى الإسلام، بكل ما في ذلك من تعزيز له، وتدعيم لموقفه في مواجهة الخيارات الأخرى. لكن هؤلاء، يرون الإسلام مهما اتسع، لا يعدو كونه - كما يتصورون أو يريدون - ملكا خاصا، وأن بيدهم التحكم فيمن يجوز له الدخول في هذا الملك الخاص، ومن له حق إخراجه، في افتئات صارخ على مقام الألوهية، التي جعلت من النطق بالشهادتين بوابة الدخول إلى هذا الدين، دين الله، الذي لم يجعل لأحد من البشر عليه سلطة، مهما التفت العمائم، وطالت المسابح، وتثفّنت الجباه، وتضخمت العوارض، وكثر الاسترجاع، وتعالى التسبيح، فالله - وليس أي أحد - هو مالك هذا الدين.

طه حسين، يصرح بهذا الموقف الإيماني، لا رغبا ولا رهبا. فهو حين يستدعي الموقف الصمود والإصرار والشجاعة، كان يصمد؛ مهما كانت النتائج، ومهما كان حجم الضرر الخاص. ورغم أنه تعرض للمضايقة في نطاق الجامعة، إلا أن حيويته في سياق الحراك السياسي، جعلته رهن تقلبات السياسة، أكثر مما هو رهن حدث خاص، بل إن هذا الحدث الخاص بكتابه السابق، كان يتم التعامل معه وتفسيره، على ضوء مواضعات السياسة، وحساباتها الخاصة، التي كانت المعارك الحزبية توجهها ذات اليمين وذات الشمال.

لقد عين طه حسين بعد أقل من عامين على قضية هذا الكتاب، عميدا لكلية الآداب، ولكنه استقال بعد يومين من تعيينه؛ تحت كثير من الضغوط اللاعلمية النفعية، التي لم ترض بأن يتولى توجيه الحراك العلمي داخل الجامعة الأم. وفي عام 1930م، أي بعد عامين من هذه الاستقالة، لم تكد الجامعة تختاره عميدا لها، حتى قرر وزير المعارف نقله إلى وزارة المعارف؛ من أجل الالتفاف على هذا الاختيار، ومنعه من ممارسة دوره الذي رشحه لها هذا الاختيار. وقد رفض في البداية هذا النقل، وهاجم وزير المعارف هجوما شرسا في الصحافة، وأظهر الغرض الحقيقي من هذا النقل، وأنه لم يكن خالصا لصالح النفع العام.

إن طه حسين، لو كان يسعى إلى منفعة خاصة، لتجنب مثل هذه العقبات التي تقف في وجه مستقبله الخاص، ولاستطاع البقاء في المراكز المرموقة التي وصل إليها، بل ولصعد من خلالها إلى قمة الهرم الوظيفي. لكنه كان يسعى إلى هدف تنويري عام. فكان هذا الهدف يتفق مع الخط الوظيفي الخاص، فيسير فيه، ويعمل من خلاله، ويتعارض معه أحيانا، فيسير لمصلحة التنوير؛ حتى ولو أدى الأمر إلى فصله من عمله وإحالته على التقاعد، كما حدث في بداية الثلاثينيات.