انبهر طه حسين بهذه الأجواء الجامعية، التي كانت تختلف - كثيرا - عن أجواء الأزهر العتيق. وقد وجد عند كبار المستشرقين من الموضوعية العلمية، والمنهجية المحايدة ؛ ما لم يجده عند الشيوخ الذين تكلست خلايا عقولهم عند حدود القرن الخامس الهجري ؛ على أحسن تقدير. لقد كان الفرق بين هؤلاء الشيوخ الأزهريين، وهؤلاء المستشرقين هائلا، لا في النواحي العلمية فحسب، وإنما في سلوكيات التعليم ؛ إذ كان الأزهريون يضيقون بالحوار، ولا يتورعون - حال ضيقهم - عن إصدار أقذع أنواع السباب.

بقدر ما انبهر طه حسين بهؤلاء، بقدر ما ضاق بأولئك. وقد زاد من مساحة هذا التباين أن القارئ له: طه حسين، كان ذا شخصية حادة ناقدة، وربما رآها بعضهم حاقدة. فكانت هذه الشخصية لا تقبل الهذر الأزهري من جهة، ولا تقبل ما يخالطه من سوء أدب من جهة أخرى. والظاهر أن سوء الأدب هذا استمر ؛ كسلوك أزهري إلى عهد قريب. أذكر أنه قبل ثلاثة عشر عاما، وعندما كنا في السنة الثانية الجامعية، كان أستاذ مادة: الصرف، الأزهري، يطلق كلمات في غاية البذاءة. وعندما صارحناه أننا لا نرضى بهذا، وأن إهانة أحد الزملاء إهانة للجميع ؛ كان جوابه الذي شابه استغراب واستنكار، أننا يجب ألا نغضب، فشيوخهم في الأزهر كانوا يخاطبونهم وهم طلاب دراسات عليا ب -: "يا حم... يا حيو... يابن الكل..." ؛ مما لا يليق التصريح به. ومن وجهة نظره - كنتاج لتلك الأجواء الموبوءة بأمراض التخلف كافة - أن هذا سلوك من الأستاذ مقبول ؛ ما دام موجها لطلابه ؛ لأن هذا - كما يعتقد - أسلوب تربوي موروث !.

ما ضاق به طه حسين في الأزهر، هو ما يضيق به الكثير من أساليب التربية التقليدية، التي لا يقتنع بها إلا أولئك الذين شربوا من كأس المهانة حتى الثمالة ؛ فضلا عن مستوى الغباء الفطري، الذي يجعلهم لا يحسون بالفروق الهائلة بين النظم التعليمية الكلاسيكية التي تعتمد التلقين، ونظم التعليم الحديثة، التي تعتمد الحوار، ومشاركة المتعلم في صناعة الأجواء العلمية، التي تصنع الاختلاف والتنوع، ومن ثم، الإبداع، ولا تكون مهمتها صناعة الصور المكرورة المستنسخة، بأردأ وسائل الاستنساخ التقليدي.

كان من الطبيعي أن تضيق نفس كنفس طه حسين بهذه الأجواء، وبهذه النماذج البشرية غير السوية. كما كان من الطبيعي أن يعبر طه حسين - وهو الذي خلق ليكون أديبا قبل كل شيء - عن هذا الضيق ببعض القصائد التي كان يقولها في بداياته، وبكثير من المقالات التي أخذت طابع الأسلوب الحاد، الذي يمكن تصنيفه في خانة: الهجاء، قبل أن يصنف في خانة: النقد، وتشريح الظاهرة الأزهرية تشريحا علميا، يتغيا الارتقاء ؛ لا الإلغاء.

سمع الأزهريون بكل هذا النقد، أو الهجاء، الذي كان طه حسين ينشره في الصحف ؛ بغية فضح الأزهر وبيئة الأزهر. وكادوا له كيدا. وكان الموعد يوم الامتحان. ومن الغريب أن طه حسين يفعل كل هذا، وهو لا يزال منتسبا إلى الأزهر، ويعد نفسه لاختبار الشهادة (العالمية). ومع أنه كان مرتبطا بالجامعة، إلا أنه لم يخرج كليا من أسوار الجامع، ولم يهجر - نهائيا - حلقات (فطاحل العلم) كما يقال، أو كما كانوا يقولون عن أنفسهم !.

عام 1912م - تقدم طه حسين لامتحان العالمية على مشايخ الأزهر. وقد تمت التوصية من الشيخ الأكبر للأزهر، بترسيبه في هذا الامتحان. وتم لهم ما أرادوا ؛ فخرج طه حسين من الأزهر نهائيا، وزادت نقمته على الأزهر ؛ جراء ما رآه من خلال مجريات الامتحان، من سلوكيات غير أخلاقية، لا علاقة لها بالعلم الحقيقي من قريب أو بعيد. وقد استمرت معه هذه النقمة، وانسحبت على كل مخرجات الأزهر بأثر رجعي. وبقدر ما كان طه حسين مظلوما في هذا التصوير، بقدر ما كان ظالما في درجة الإزراء، ودرجة التعميم - المضمر - أيضا.

من قرأ (الأيام) وهي السيرة الشخصية لطه، وجد فيها السخرية التي تتعمد التصوير الساخر، الذي يجعل مخرجات الأزهر نماذج بشرية غير سوية، لا تصلح إلا للتندر، الذي لا يملك القارئ معه إلا أن ينفجر ضاحكا من صور لبشر لم يتوقع وجودهم - على هذا النحو - ولو في الخيال. ولا شك أن طه حسين صورهم بكاميرا نقمته عليهم، ومعاناته معهم، وإلا فلا يشك أحد أنها صور مبالغ - إلى حد ما - فيها، كما لا يشك أحد أن هناك علماء أجلاء، نذروا حياتهم للعلم، وليس لهم علاقة من أي نوع، بهذه السلوكيات التي تعكسها النماذج البشرية التي أضاف لها طه حسين ؛ ليمنحها قدرا من التركيب الذي تستلزمه الشخصيات الروائية عموما.

لم يمتدح طه حسين أحدا من علماء الأزهر، مثلما امتدح الشيخ الإمام: محمد عبده، الذي لم يحضر له إلا محاضرتين، والشيخ الأديب: سيد المرصفي، الذي كان طه يعجب بطريقته في تدريس الأدب. لكنه صدم بالمرصفي، الذي كان يذم الأزهر وشيوخه ومناهج تعليمه، وينقدها أشد النقد، وبصراحة عليه. لكنه، بعد أن هدده شيخ الأزهر / رئيس الأزهر، كف عن هذا النقد. وعندما عاتبه الفتى: طه حسين على توقفه عن النقد، ورضوخه لإرادة شيخ الأزهر، قال المرصفي معتذرا: (عاوزين ناكل عيش). وهذا ما صدم طه حسين في شخصية: المرصفي، واعتبرها انهزامية لا تغتفر من الناحية الأخلاقية، وإن بقي تقديره العلمي للمرصفي - رغم هذا الحادث - واضحا في ثنائه الدائم عليه.

إلى هذا العام 1912م وربما إلى ما بعده بقليل، كان طه حسين يدعى ب: الشيخ: طه، وكانت العمامة لا تفارقه، حتى وهو يتردد على دروس الجامعة، ويحضر فيها لدرجة الدكتوراه، التي نالها من جامعة القاهرة عام 1914م وكانت أول رسالة دكتوراه تمنحها الجامعة. وفيها حاول طه حسين تطبيق المناهج البحثية الحديثة التي تعلمها في الجامعة، والتي ترى أن الظاهرة الأدبية نتاج مجتمع، لا نتاج أديب، بل الأديب نفسه ظاهرة اجتماعية، لا يملك القدرة على الخروج من شرطه الاجتماعي الواسع. فكانت الدراسة جديدة على بيئة الكتابات الأدبية، وذات نكهة خاصة، لم يعتد على مثلها المؤلفون، الذين كانوا لا يتجاوزون حدود التجميع والشرح والاستنباط القريب.

كانت رسالة الدكتوراه لطه حسين بعنوان: (ذكرى أبي العلاء) التي نوقشت في 1914/5/5م - والتي نشرت فيما بعد بعنوان: (تجديد ذكرى أبي العلاء). وهي من الدراسات المبكرة عن أبي العلاء، بل هي - في حدود علمي - أول دراسة عصرية عن أبي العلاء المعري تلك الشخصية الشائكة، والزاخرة بالتنوع، وربما بالمتناقضات.

لم يكن اختيار طه حسين لأبي العلاء المعري، كمادة لدراسته عبثا، كما لم يكن بدافع أن كليهما عانى من فقدانه لبصره. وإنما كان اختيار طه حسين له - إضافة على التشابه الظاهري - لوجود تشابه نفسي وعقلي بينهما. كلاهما كان متمردا، وكلاهما كان مهموما بالأسئلة أكثر مما هو مهموم بالإجابات النهائية، وكلاهما كان يمتلك قدرات ذهنية عالية، وكلاهما كان يتوق إلى الحقيقة، أيا كان مصدرها، وأيا كانت هويتها، ومهما كانت محملة باليأس والألم.

لقد أراد طه حسين أن يقول من خلال المعري الكثير، وقد قال. ولهذا كانت ردة الفعل عنيفة جدا على هذا الكتاب، أو على هذه الرسالة. وقد اتهمه المتطرفون بالكفر والإلحاد، ودعا بعضهم إلى محاسبة الجامعة ؛ لأنها - بزعمهم - تناصر الكفر والإلحاد، متمثلا في شخص طه حسين. ولولا موقف سعد زغلول آنذاك، لوقعت الجامعة في مأزق، ولتم إجهاض طه حسين في بدايته، ولتزعزع المشروع التنويري من أساسه. وبهذه الوقفة الزغلولية، نجت الجامعة ونجا طه حسين، الذي لم يشكر سعد زغلول عليه - بسبب اختلاف الرؤية السياسية بينهما، وإنما كان يراه مجرد واجب عليه، قام به، ولا يستحق عليه الشكر بحال.

بعد حصوله على درجة الدكتوراه، لم يقنع طه حسين بما درسه في الجامعة المصرية، وإنما طالب ببعثة إلى فرنسا. وحصل له ما أراد. وهنا سيدخل طه حسين في بعد آخر، سيكون ما يتعلمه هناك، سببا في القطع البائن مع ثقافته الأزهرية الأولى. لقد كانت المنهجية التي اشتبك معها في فرنسا، مباينة أشد التباين مع طرائق التلقين، وأجوبة اليقين، التي كان الأزهر يعدها من فضائله، ومن مصادر تميزه. وهذا ما سيجعل طه حسين لا يكتفي برفض هذه الأنماط البحثية الأزهرية، وإنما سيقدم البديل، وسينافح عن هذا البديل، إلى آخر يوم في حياته، التي امتدت بعد عودته من باريس، لأكثر من أربعة وخمسين عاما.

في فرنسا، درس طه حسين الفرنسية وأتقنها إلى درجة عالية، كما درس اللاتينية واليونانية القديمة. وقد كان جادا، على درجة أنه لم يتخرج من أعضاء بعثته إلا هو. وقد ساعده على هذه الجدية، ما وجده في الأجواء العلمية الفرنسية من فروق نوعية كبيرة في التعليم. كما أن وجود كبار الأساتذة الفرنسيين، كعالم الاجتماع الشهير: دور كايم، الذي بدأ تحضير رسالته عن ابن خلدون على يديه، والمستشرق كازانوفا الذي درس عليه تفسير القرآن، وذكر أنه فهم عنه القرآن، كما لم يفهمه من أي شخص آخر.

فرنسا دخلت قلب طه حسين، بعد أن دخلت عقله، أو مع ذلك. ولهذا سرعان ما انخرط في البيئة الثقافية الفرنسية، وأصبح من أشد متابعيها، إلى أواخر حياته في بداية العقد الثامن من القرن العشرين. ولقد زاد من فهمه للثقافة الفرنسية، ومن ورائها الأوروبية، أنه اختار رفيقة عمره من فرنسا، وبقيت معه طوال حياته، عكس كثيرين العرب، الذين قد يصاحبوهن، ويمتدحوهن، ولكنهم ينفرون من مثل هذا الزواج، وإن فعلوا، فقلما يستمر الرباط المقدس معهم الحياة كلها.

كل هذا يعني أن طه حسين لم يكن مطلعا على سطح الثقافة الغربية، وإنما كان متماهيا معها، على أعماق أعماقها. وهذا ما سينقمه عليه الكثيرون. وبدل أن يعدونه أبرز رواد التنوير - وإن لم يكن أولهم - سيعدونه أبرز رواد التغريب، بالمعنى السلبي للتغريب. وهكذا تصبح فضيلة المعرفة، وتنوع المصادر المعرفية، والجهد الهائل في استنباتها في الواقع العربي، والتضحية بالكثير في سبيل تحقيق مستوى حضاري مميز، كل هذا سيصبح جريمة عند أولئك المتطرفين، المهووسين بالانغلاق والانكفاء، والمبررين والمشرعنين للتخلف والانحطاط. وإذا كانت فضائلك اللاتي تدل بها، هي ما يراه الآخرون عيوبا فيك، فكيف تعتذر ؟ ؛ كما يقول البحتري !.

عام 1919م - يعود طه حسين من فرنسا، ويبدأ عمله أستاذا في الجامعة. ولكنه لا يكتفي بالدور الجامعي المنوط به، وإنما يخرج إلى الحياة العامة، مشاركا فيها إلى أقصى حد. لا يخوض المعارك الأدبية المتمثلة في الخصام بين دعاة القديم ودعاة الجديد فحسب، وإنما يخوض المعارك السياسية أيضا، ويوغل في التحزب - بل والتعصب أحيانا - إلى درجة قد تجني على رؤاه العلمية. وهو بهذا لا يجهل خطورة هذا الخلط، وإنما يمارسه - بحدود ضرره الأدنى - قناعة منه بأن المثقف الحقيقي، هو: (المثقف العضوي)، المشتبك مع إشكاليات الواقع، وميادين المعرفة كافة، غير منحصر في دهاليز التخصص الدقيق، وغير متوقف عند عتبات الهم الخاص، المحدود بحدود المنافع الشخصية، والذي إن جاز - إلى حد ما - في مجال العلوم التجريبية، فإنه لا يجوز في مجال العلوم الإنسانية، إلا من خلال التضحية بروح هذه العلوم.

وهكذا، يخوض طه حسين المعارك مرة أخرى، منذ أن استقر في مصر، بعد عودته من البعثة. فيكتب: حديث الأربعاء، على صورة مقالات، تناول فيها الأدب العربي منذ القديم، حتى العصر الحديث. وقد جمع هذه المقالات في ثلاثة أجزاء، بهذا الاسم. وطبيعة الصراع ظاهرة فيها، فهي ليست طرحا مجردا من سياقات الواقع، حتى في المقالات التي تبدو وكأنها دراسة خالصة للشعر. فهذا - في بعدها الآخر - استدلال ضمني على مفردات الصراع، وتأكيد غير مباشر على وجهات النظر، التي يتبناها المؤلف.