أثبتت علوم الغرب نفسه بأن الجنس الأبيض لا يتميز بيولوجياً عن الأجناس الأخرى من البشر وما دام أنه قد انتفى الامتياز العرقي وأننا نرى بوضوح شديد أن الغرب قد حقق في مجالات العلوم الدنيوية والفنون والتنظيمات والتقنيات والحضارة بشكل عام كل هذا السبق المدهش لذلك فإن المنطق والعقل والواجب نحو الحقيقة والالتزام بمصلحة الأمة كلها تقتضي البحث الجاد لمعرفة أسباب هذا الإنجاز الغربي العجيب الذي لا يكفّ بتلاحقه وعظمة نتائجه عن إدهاش منتجيه فضلاً عن المستهلكين الأبعدين!!
إن البحث الجاد والاستقصاء الموضوعي والتقييم الأمين كلها تنتهي بالباحث إلى الاقتناع التام بوجود عنصر ثقافي كان خلف هذه الإنجازات العظيمة تنفرد به الثقافة الأوروبية منذ بداية تكوينها في القرن السادس قبل الميلاد أما مصدر هذا الاقتناع فهو أنه أصبح من المجمع عليه علمياً أن الاختلافات الشاسعة بين المجتمعات أو الأمم ليست ذات مصدر عرقي وإنما هي ذات مصدر ثقافي، فالثقافات هي قوالب العقول وهي موجّهات النشاط فثقافة أي مجتمع هي التي توجّه تفكير أفراده وهي التي تحدد اهتماماتهم وهي التي تصوغ عقولهم بأشكال مختلفة تتناسب اختلافاتها مع الاختلافات الثقافية وهي اختلافات قد يظن الناس أنها غير ذات تأثير على حياة الأمم بينما أنها في الواقع ذات تأثيرات كبرى وحاسمة فمن أشد الحقائق التي يجب أن يعرفها الجميع أن الإنسان كائن ثقافي وأن عقله يتلوَّن بلون المحيط الثقافي الذي ينشأ فيه وأن العلوم الحديثة قد قَلَبَتء مفهوم العقل وغَيَّرَت المفهوم القديم الذي كان يعتبر أن الفرد يولد بعقل ناجز واستبدلته بالمفهوم الحديث الذي توصّل إلى أن الإنسان يولد فارغاً بقابلية ذهنية وعاطفية شديدة المرونة والطواعية وأن عقله ووجدانه يتشكلان بالمحيط الثقافي الذي يتفتَّحان فيه وهذا الانقلاب الجذري في مفهوم العقل يستوجب أن نبحث عن العنصر الثقافي الذي ميَّز الثقافة الغربية ومكَّنها من تحقيق هذا التفوق الباهر الذي مازالت تتدفق عطاءاته في كافة المجالات الدنيوية..؟!!
ومع الاقتناع التام بأن الحياة الغربية مليئة بالعيوب والنقائص وأنَّ أفدح نقائصها يأتي في الجانب الديني وأن هذا النقص الفادح لا تُعوض عنه أية مكاسب دنيوية إلا أن الذي يهمنا من حضارة الغرب هو جانبها الإيجابي لأن المسلمين يستطيعون أن يتعرفوا على العنصر الثقافي الذي أتاح للغرب هذه الإنجازات الكبرى في مجالات العلوم والفنون والتنظيمات الدنيوية فإذا أخذ المسلمون بأسباب التفوق الدنيوي فلن يزيدهم ذلك سوى المزيد من الاستمساك بالإسلام والالتزام بتعاليمه وقيمه وتشريعاته ويكونون بذلك أقدر على إعلاء كلمة الحق والجهر بصوت الإسلام في كل مكان فيجمعون بين عز الدنيا وفوز الآخرة..
إذا آمنا بذلك فيجب أن نعترف بأن من أشد الحقائق وضوحاً انفراد الثقافة الغربية بإنجاز تأسيس العلوم الدنيوية والاستمرار في ابتداع علوم وتطبيقات جديدة هائلة فعلوم الفيزياء والكيمياء والكونيات والأحياء وعلوم الطب والهندسة وعلوم الفضاء وعلم الأخلاق والسياسة والإدارة والاقتصاد والاجتماع وغيرها من المعارف التي تُدرس في المدارس والجامعات في كل أقطار الأرض هي بدون شك من إنجازات الغرب كما أن الثقافة الغربية هي وحدها التي اخترعت الوسائل الحديثة المدهشة في مجالات الطب والهندسة والتعليم والنظم والإعلام والاتصالات والنقل والتخطيط والمعلومات وغيرها مما لا يقع تحت حصر ولا يحيط به التصور من حيث التنوع والكثرة والدقة والضخامة والنفاذ ومن حيث قابليات النمو والازدهار بدون توقف أو تحديد..
وهذه الحقيقة التاريخية والواقعية التي لا يمكن التشكيك بها ولا الجدال حولها لابدَّ أن تحمل الباحث المتعطش للمعرفة والمهتم بشأن أمته ليسأل عن أسباب هذا الانفراد وما هي جذوره التاريخية التي مكَّنته من هذا التشييد المتنوع العملاق ولماذا بقيت معظم شعوب الأرض عاجزة حتى عن التقليد والمحاكاة رغم تعاقب الأجيال؟؟!
إننا حين نبحث عن مصدر أساسي لهذا التفرد الغربي ونقرأ تاريخ الحضارات القديمة لمعرفة سبب هذا الامتياز نجد أن الحضارة اليونانية التي ورثها الغرب هي الحضارة الوحيدة التي انفردت بالتفكير الفلسفي منذ بداية القرن السادس قبل الميلاد وهي الثقافة الوحيدة التي أخضعت كل شيء من مكوّناتها للفحص والتمحيص وأن اليونانيين هم الأمة الوحيدة التي أحالت الفكر الفلسفي العلمي الى ثقافة عامة يعيش الجميع في أجوائها ويمارسون حياتهم من خلالها والغرب نفسه يدرك أن الفلسفة هي مصدر امتيازه وعن ذلك يقول الفيلسوف الفرنسي الأشهر ديكارت في كتابه (مبادئ الفلسفة): ".. الفلسفة هي وحدها التي تميزنا عن الأقوام وإن حضارة الأمة وثقافتها إنما تقاس بمقدار ما يشيع فيها التفلسف الصحيح لذلك فإن أجلَّ نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هي أن يمنحه فلاسفة حقيقيين.." أما العلوم فما هي إلا فروع من شجرة الفلسفة أو هي ثمار هذه الشجرة التي تتغذى بأنصع نتاج العقل البشري لتقود الإنسان نحو الحياة الدنيوية الزاهرة..
أما الحضارات القديمة الأخرى فإنها لم تعرف التفكير الفلسفي كما أن القلة من ذوي التفكير التأملي العميق أو ذوي الاتجاه التجريبي المتطور يظلون منعزلين عن الناس فلا يكون لهم تأثير على التكوين الثقافي لمجتمعاتهم بل تبقى الجموع منقادة لجريان الحياة التلقائي ويبقى السلوك الفردي والجماعي مرتهناً بمصادر الرزق وباتجاهات السلطة وبالمؤثرات الآنية فالفكر في الثقافات الأخرى ليس فاعلاً ولا مؤثراً في توجيه النشاط وانما هو دائماً منفعل وتابع فيأتي الفكر أو الفعل ارتجالاً كردود افعال واستجابات آلية للأحداث أو المواقف وليس نتيجة التخطيط المسبق ولا البحث المتعمق ولا التقصي عن اسباب الاشياء وعلل الأحداث وتوقعات المستقبل فالمؤثرات اليومية والأحداث الضاغطة هي التي توجّه التفكير في اغلب الثقافات كردود أو استجابات فليس التفكير المتروي في الكثير من ثقافات الأرض هو الذي يوجه الأحداث أو يرسم المستقبل وانما تستبد بهم دائماً اللحظة الراهنة فالتفكير آني ومبعثر حسب آنية الأحداث وليس برنامجاً للعمل يسبق الأحداث ولا نسقاً متكاملاً من الرؤى النافذة التي تتأتى عن الدراسات العميقة الموسعة...
إن طفرة العلوم الدنيوية وتنوع التقنيات المدهشة وصرامة التنظيمات المبتكرة في الثقافة الغربية دون غيرها هي من الظواهر الساطعة التي لا يستطيع العقل الا ان يقف عندها وقوفاً طويلاً ليبحث عن أسبابها وعوامل تفتحها وحوافز اطراد نموها..
إن مؤرخي الأفكار وفلاسفة الحضارة والمهتمين بالشأن الإنساني كادوا أن يجمعوا على أن التفكير الفلسفي اليوناني كان هو العنصر الذي امتازت به ثقافة الغرب وأنه المنبع الرئيسي لحضارتهم وأنه الجذر العميق الذي تفرعت منه العلوم الغربية وأنه العنصر الهام الأساسي الذي تفتقر اليه الثقافات الأخرى وأن الحضارة اليونانية هي المثال الذي احتذته أوروبا في كافة جوانب الفكر والتنظيم والنص والعمل ثم طورت أوروبا الحديثة هذا المثال ابتداء من القرن السادس عشر بعد ان احيت الفكر الفلسفي الحافز والخلاق الذي كان قد توارى خلال العصور الوسطى حيث استُبعدت في تلك الحُقُب الأوروبية المظلمة عناصر الحضارة اليونانية أو حوّرت لخدمة الأوضاع والمصالح التي كانت قائمة آنذاك مما عطل آلية التفتح والنماء التي كوّنها الفكر الفلسفي اليوناني.
إن الدور الجذري الذي أدته الفلسفة في خلق الحضارة الغربية لا يكاد يخفى على أي باحث وان مئات المراجع تتحدث عن هذا الدور الحاسم وعلى سبيل المثال فإن الدكتور عرفان عبدالحميد فتاح في كتابه (المدخل الى معاني الفلسفة) يوضح أهمية الفكر الفلسفي بوصفه نظاماً معرفياً نامياً وفريداً ادى الى خلق الحضارة الغربية وتطويرها كما يتحدث عن الصلة بين الفلسفة والعلم ليؤكد بأن: ".. بينهما تماثلاً في المطلب والغاية معاً إذ من الأمور المجمع عليها أن ميلاد التفكير الفلسفي كان يعني ايضاً ميلاد العلم بمنهجه الدقيق ومفاهيمه البسيطة الواضحة وفهمه العقلاني بطبائع الموجودات وكان القصد من الفلسفة اصلاً محاولة الإنسان تجاوز التفسيرات الأسطورية والخرافية للظواهر الطبيعية الى تفسير يستند الى الحدس العقلي والفرض العلمي والملاحظة الاستقرائية ومن ثم تطابق مفهوما العلم والفلسفة منذ بزوغ التفكير الفلسفي فكانت جهود الفلاسفة موجهة الى الكشف عن الترابط العلمي والمنطقي بين ظواهر الوجود بل ذهب بعض مؤرخي الفلسفة الى ان العلم قد بلغ مداه وغايته مع المدرسة الذرية..) التي ظهرت باليونان منذ القرن السادس قبل الميلاد..
إن تأكيدات مؤرخي العلم ومؤرخي الحضارة الغربية وكبار المفكرين على أن ثقافة الغرب وعلومه وفنونه وتنظيماته وحضارته هي نتاج الفكر الفلسفي اليوناني لا تكاد تحصر ومن ذلك ما يقوله الفيلسوف الألماني هايدجر الذي يؤكد بأنه: ".. من اليقيني انه ما كان للعلوم أن توجد لو لم تسبقها الفلسفة وتتقدم عليها.." ويقول المفكر الفرنسي دوبريه: ".. إن نصوص القرن الخامس قبل الميلاد لا تزال تسائلنا ولا يمكن لأي فيلسوف في أيامنا ان يدعي بأنه يفكر افضل من أفلاطون..".
وحتى نيتشة الذي لا يعجبه العجب يتخلى عن منهج التحطيم الذي عُرف به فيشده الإعجاب بفلاسفة اليونان فيصفهم بأنهم (جبابرة العقل) فيقول بكتابه (الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي): ".. إن الجبابرة يتخاطبون عبر مسافات التاريخ المقفرة ويستمر حوارهم الرفيع بين الأفكار دون أن يعكّر صفوه الأقزام المستهترون والصاخبون الذين ما يزالون يزحفون تحتهم.." كما يؤكد ايضاً ان اليونانيين قد: ".. ابتكروا الأنساق الكبرى للفكر الفلسفي ولم يبق لمجمل الأجيال اللاحقة ان تبتكر شيئاً جوهرياً يمكن أن يضاف إليها.. لقد كانوا جميعاً في وحدتهم المهيبة الوحيدين الذين عاشوا للمعرفة فقط وكلهم يتمتعون بقوة القدامى المتينة وهي تقوم على ايجاد شكلهم الخاص وعلى مواصلة اكتماله بفضل التحول في أدق تفاصيله وفي أرحب اتساعه.. انهم لم يستعينوا بأي زي شائع كان يمكن أن يسهّل مهمتهم.." وهذه الإشارة الى انهم لم يستعينوا بأي فكر سابق تؤكد أن اليونانيين هم الذي ابتكروا التفكير الفلسفي الذي هو صميم الفكر العلمي ولم يسبق لأية ثقافة أخرى قبل الثقافة اليونانية أن وضعت نظاماً معرفياً تتمكن بواسطته من حسن استخدام العقل حتى انه من السائغ جداً أن نصف الفلسفة بأنها (علم استخدام العقل) لأن الفلسفة ليست مذهباً ولا نحلة أو ملة وانما هي طريقة لتنظيم نشاط العقل الإنساني في كل المجالات التي يستطيع العقل ان يحذقها..
ولأن الفلسفة اليونانية مثلت منهجاً جديداً في تنظيم نشاط العقل فإن الفيلسوف الألماني شوبنهاور يصف اليونانيين بأنهم: ".. جمهورية العباقرة.." لأن ما أنجزوه في مجال الفكر والعلم والفن والسياسة والتجربة الاجتماعية كان ابتكاراً خالصاً لم يستمدوه من أحد ولم يقلدوا فيه شعباً بل كان تأسيساً جديداً لنشاط العقل البشري المنظم..
أما الفيلسوف الألماني هيجل فإنه رغم شهرته الواسعة ومكانته الرفيعة فإنه يؤكد أن الفكر الحديث الذي أنجب العلوم لم يزد على احياء الفكر اليوناني ومواصلة السير فيما اختطه اليونانيون وهو يعترف بأن الفكرة الأساسية لفلسفته (الديالكتيك) قد قال بها فلاسفة اليونان من قبل فهو يؤكد: ".. بأنه ليس في أقوال هيراقليطس عبارة لا أستطيع ان ادخلها في صميم منطقي.." ويقول ايضا عن هيراقليس: ".. انه لأمر عظيم الأهمية ان يكون قد ادرك ان الحقيقة الأولى هي فقط الصيرورة..".
إن الفكرة المحورية في فلسفة هيجل هي فكرة الصيرورة والتحول وجدل الأضداد وانبجاس الشيء من نقيضه فيما دعاه عمليات الديالكتيك وهي الفكرة التي قال بها هيراقليطس في القرن السادس قبل الميلاد..
ان فكرة جدل الأضداد هي احدى الأفكار الفلسفية الرئيسية التي غطى تأثيرها كافة النشاطات الفكرية والعلمية والاجتماعية والدولية ومع كل هذه الأهمية المعـــرفــية لهذه الفكرة المحورية فإنها ذات اصــل يوناني..
ويقول بيوري: ".. اننا مدينون للإغريق بأعظم الهبات بوصفهم مبتكري الحرية والفكر الجدلي.. لقد كانت ايونيا مهداً للفكر الحر وبين جوانبها نشأ تاريخ العلم الأوروبي والفلسفة الأوروبية وفي ايونيا أخذ الفلاسفة الأوائل في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد يُعملون عقولهم للتحقيق في البحث في أصل العالم ومن ثم فقد بدأوا عملية تحطيم الأساطير.." وبذلك ابتدأت نشأة العلوم الدنيوية القائمة على البحث المنهجي والاستقصاء الموضوعي واستصحاب الادراك بأن كل نتائج البحث البشري تبقى معارف احتمالية قابلة للتعديل والتطوير فلا توجد كلمة نهائية في الجهد البشري وانما كل الجهود في مجالات الأفكار والفهوم والعلوم والفنون والتقنيات والتنظيمات هي محاولات جادة ومتواصلة ومفتوحة للارتقاء قدر الإمكان بالمعرفة وبوسائل الحياة على هذه الأرض..
1
أحمد الخنيني
2005-03-21 15:04:15الم تنتقل الحضارة اليونانية مزيدة ومنقحة عن طريق المسلمين ?