بعد الحملة العسكرية على افغانستان، بدأ الصومال الهدف الأكثر رجحاناً لمسار الحرب الأمريكية. وبدت المصوغات بهذا الاتجاه غير منفصلة عن تلك التي رسمت ملامح الحدث المستمر في الأودية والجبال الأفغانية.

وربما بدا القسم المشترك بين الحالتين الأفغانية والصومالية متجلياً في حقيقة أننا بصدد الحديث عن بيئتين هما الأكثر دماراً، في الوسط الآسيوي كما في الشرق الافريقي.

وقدمت الإدارة الأمريكية رزمة كثيفة من البيانات والمعلومات التي تم النظر إليها ك "إثباتات"تبين ضلوع مؤسسات وجماعات صومالية في نشاطات ماسة بالأمن القومي الأمريكي.

وبمؤازرة هذه الرزمة التي كثفت حولها الأضواء، بدت دعوات متزايدة لتوجيه ضربة عسكرية للصومال، قد تتجلى في صورة عمليات خاصة. وبدا من اليسير ملاحظة هذا المناخ وقد تشكل بعيد أيام وحسب من اعتداءات الحادي عشر من أيلول سبتمبر على نيويورك وواشنطن.

وقد أظهر استطلاع للرأي، نشرت نتائجه في العشرين من كانون الأول ديسمبر الجاري أن غالبية الأمريكيين يؤيدون توسيع دائرة الحرب لتشمل دولاً أخرى مثل الصومال.

بيد أن الرأي العام الأمريكي قد يتحول مع ذلك ضد المجهود الحربي إذا بدأ مسار الأحداث ضبابياً، وقد سبق أن تحول هذا الرأي أثناء الحرب في الصومال في العام 1993، تماماً كما حدث قبل ذلك في ربيع العام 1968م ضد حرب فيتنام.

ويجد الأمريكيون أنفسهم في شكوك عند مقاربة الأهداف المعلنة بالنتائج الممكنة، ولا يقدم مسار الحرب الراهنة في أفغانستان حتى اليوم ما يزيل تماماً هذه الشكوك. ولعل الأمريكيين هم اليوم في مناخ مشابه لذلك الذي كانوا عليه في أعوام 1776م (بداية حرب الاستقلال) والعام 1681م (بداية الحرب الأهلية) والعام 1949م (بداية الحرب الباردة).

كذلك، ومبعزل عن النتائج المحتملة لتوجيه ضربة عسكرية لبلد مثل الصومال، فإن طبيعة المسوغات المساقة لتبرير هذه الضربة تبدو ملتصقة بالتاريخ أكثر من التصاقها بالحاضر، وتحديداً هي غير مرتبطة بالجماعات الممسكة حالياً بزمام الزمور على الأرض، وربما لم تكن مرتبطة أساساً بأطراف محلية، ناهيك عن المجتمع الصومالي العريض، الذي سيكون المعني الأول بتداعيات أي عمل عسكري.

وقد ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" في الرابع من الشهر الماضي أن مجموعة عمل تمثل مختلف وزارات الإدارة الأمريكية "ناقشت خيارات متعددة لتحركات أمريكية" في الصومال، منها على وجه الخصوص هجوم قوات خاصة أو عمليات تتم بالتنسيق مع إثيوبيا.

وفي وقت لاحق، زار ضباط أمريكيون الصومال وبحثوا في ما إذا كان زعماء الحرب يعرفون مكان أي "قواعد إرهابية" في جنوب البلاد وجنوبها الغربي.

إن الغياب المديد للدولة عن الصومال، فضلاً عن النمط المعقد للوحة الحربية والقبلية فيه، بكل تداخلاتها في الساحل الشرقي الافريقي، يجب أن يدفع إلى تمحيص أمريكي متزايد للمبررات والأهداف، لأن الحقيقة قد تكون ملتبسة.

وإن الذاكرة الأمريكية حاوية للكثير مما يدعو إلى ضرورة هذا التمحيص؛ ففي أعقاب كارثة "بيرل هاربور" قامت كاليفورنيا بشحن كل مواطنيها ذوي الأصول اليابانية إلى مخيمات إجلاء وتجرديهم تقريباً من كافة حقوقهم الدستورية، في حين أنهم لم يكونوا معنيين بما قام به الطيران الحربي الياباني.

وفي العام 1898م استغل انفجار غامض في السفينة الحربية "Maine " لشن حرب واسعة ضد اسبانيا فقد احتشد الامريكيون خلف صيحةRemember the Maineالتي أشعلت الحرب الأمريكية الاسبانية. إلا أن البحرية الأمريكية قررت بعد ذلك أن غلاية معيبة من المحتمل أن تكون فجرت السفينة في خليج هافانا وليس عملاء الاسبان.

أما قرار خليج تونكين الذي خول للرئيس ليندون جونسون توسيع الحرب الفيتنامية فكان مبنياً على أوصاف لهجوم على السفن الأمريكية ثبت فيما بعد أنه كان مغالياً فيها.

واليوم، فإن وقوع هجوم أمريكي على دولة ضعيفة وممزقة مثل الصومال لابد وأن يشير إلى غياب استراتيجية محددة للتعامل مع الأحداث، مع أن الولايات المتحدة قد تسعى بمثل هذا الهجوم لتجاوز الآثار النفسية السيئة لتدخلها في هذا البلد في العام 1993م.

إن أي عمل عسكري ضد الصومال من شأنه أن يفاقم الأوضاع المأساوية لبلد يعاني أساساً ويلات الحرب والمجاعة، فقد يدمر هذا العمل بنى اقتصادية متواضعة، ويزيد من معدلات الهجرة الداخلية، كما باتجاه دول الجوار.

وقد حذرت الأمم المتحدة من حدوث مجاعة وشيكة في الصومال نتيجة النقص الحاد في الأغذية والموارد الزراعية بسبب عدم سقوط الأمطار الموسمية في شمال شرقي البلاد.

وأكدت المنظمة الدولية بأن هناك حاجة عاجلة إلى نحو أربعين ألف طن من الأغذية لإطعام نحو ثلاثمائة ألف شخص يواجهون خطر مجاعة وشيكة، في حين يعاني 450ألف شخص آخرين من نقص في الغذاء. كما أن البلاد تحتاج إلى إمدادات مياه وإمدادات طبية متزايدة.

ويعتبر الصومال أحد أفقر دول العالم. ويعيش المواطن الصومالي العادي على أقل من 50سنتاً في اليوم.

وفي الخلفيات الأكثر عمقاً لمعضلة السجال الخاص بالصومال، يمكن أن نلحظ أن الإدارة الأمريكية قد أوضحت أن الحرب التي أعلنتها على الإرهاب ستكون مغايرة لكل الحروب التي دخلتها الولايات المتحدة، ولكن من غير أن تحدد حتى اليوم طبيعة القواعد التي ستسير على أساسها تلك الحرب.

لقد بدت هناك خطة واضحة عندما تحدث الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى الكونغرس معلناً أن الولايات المتحدة ستقود هجوماً عالمياً ضد الإرهاب، و"إن ساعة تحرك الولايات المتحدة تقترب، وستكونون فخورين بها". كانت البلاغة مثيرة، ولكن أسلوب العمل العسكري في الرد بدا قضية معقدة. ومعضلة الرد العسكري لا تنبع من اعتبارات تقنية بقدر ما هي مرتبطة بالإطار السياسي.

إن جدلاً ما برح مستمراً في صفوف الإدارة الأمريكية بشأن الحجم المطلوب للتحالف ونوعية دوله، وقد يعمل ذلك على إعادة تحديد الأهداف وتحديد استراتيجية المعركة.

إن الطاقم المحيط بالرئيس بوش يمثل جيلاً يؤمن بأنه لا يوجد منافس لقوة أمريكا العسكرية، وأن الولايات المتحدة ليست بحاجة إلى إرضاء أي كان.

إن أعضاء الطاقم يشتركون في ذهنية القوة الأمريكية وتحالفاتها دون أن تحد تلك التحالفات من حرية تحرك الولايات المتحدة في ما تريده، وأن انتشار القوات الأمريكية في العالم هو لردع القيام بالحروب، على أن لا تقع في شرك إحلال السلام الواسع النطاق.

ويعتبر وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في نظر عدد من الأمريكيين المحافظين عدواً، إذ يرونه حذراً في استخدام القوة العسكرية ولديح احترام متزايد للدول الأوروبية ودول العالم الثالث. ويعتقد هؤلاء أيضاً أن الولايات المتحدة تخاطر بخسارة المعركة في إضاعتها الوقت لإقامة ائتلاف دولي.

ولا ريب بأن الولايات المتحدة التي تمكنت من صياغة ائتلاف هش بخصوص الحرب على أفغانستان ستبدو أمام مهمة أكثر عسراً فيما يتعلق بالصومال، وهذا سيعتمد على طبيعة الفعل العسكري المزمع. وفي نهاية المطاف قد ترى واشنطن نفسها في غنى عن صياغة أي شكل من أشكال التحالفات، وقد تكتفي بالتعاون مع أثيوبيا، والتنسيق الاستخباراتي مع كينيا.

وفي بعد آخر، يمكن أن نلحظ بأن الفراغ الإعلامي في الساحة الأفغانية كان عاملاً مساعداً على اعتماد مبادرة عسكرية واسعة دون التعرض لضغوط موازية من الرأي العام الأمريكي والدولي، بيد أن الوضع سيكون مختلفاً مع ساحة مفتوحة، رغم معاناتها، كالساحة الصومالية.

وقد قال الرئيس بوش إنه "قد لا يتم الإعلان عن بعض انتصاراتنا".

وفي العام 1983م، كانت إدارة الرئيس رونالد ريغان قد رفضت اصطحاب رجال الإعلام للقوات المسلحة في غزوها لجزيرة غرينادا. وقامت حكومة بوش الأب بالحد من المعلومات التي تتلقاها وسائل الإعلام في العمليات العسكرية في بنما عام 1989، وقامت بتحديد نظام البث في حرب الخليج في العام

1991.وبصفة مجملة، يمكن ملاحظة أنه لم يتركز الجهد على السرية في عهد أي رئيس أمريكي منذ حكم ريتشارد نيكسون مثل عهد بوش الابن.

وقد علقت صحيفة "يو إس تودي" على كيفية إخفاء الرئيس بوش لنواياه بشأن البحوث التي تجري حول خلايا المنشأ، حيث اتخذت إدارته قراراً يساوي مستوى سريته مستوى سرية مشروع مانهاتن.

وبالنسبة للحرب ذاتها، لا يعلم الأمريكيون غالباً بطبيعة ماذا يحدث.

وعلى عكس الحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب في كوريا وفي فيتنام، تم الآن إبعاد مراسلي الحرب الأمريكيين عن القوات وعن أرض المعركة.

وحتى زعماء الكونغرس يتم منعهم من الاطلاع على أي شيء أكثر من الأخبار العامة التي تم تسويتها بشأن الحرب في أفغانستان وبشأن مساعي الأمن الداخلي.

وقد تم حجب الصور التي توضح آثار القصف الجوي، وكان ذلك ممكناً بسبب محدودية المصادر التي تناقلت هذه الصور، حيث الطبيعة المغلقة لأفغانستان.

أما في الحالة الصومالية، فليس من الواضح حتى الآن مدى نطاق الفعل العسكري المزمع اعتماده أميركياً، وإذا تطور هذا الفعل ليأخذ شكل الحرب، فستكون تلك الحرب هي الأولى التي تشن في ساحة مفتوحة في عصر الانترنت.

هناك جدل ما برح مستمراً في صفوف الإدارة الأمريكية بشأن الحجم المطلوب للتحالف ونوعية دوله