أصدرت ديمة ونوس ابنة الراحل سعد الله ونوس، مجموعة قصصية عنوانها(تفاصيل) عن دار المدى بدمشق، وهي باكورة إنتاجها الذي نشرت بعضه على الانترنيت. ديمة تفاجئ القاريء بتفرد كتابها هذا عن الكثير من الإصدارات الشابة في العالم العربي، فهي تكتب ما يمكن أن نطلق عليه أدب الكشف عن الحياة على الضفة الأخرى،حين تتحول السلطة والجاه الى مأزق إنساني.
كيف يحدث هذا وهل يحسب الذي تكتبه أدبا سياسيا؟ من الصعب الجزم بان هذه الكتابة تدرج في باب الاعتراض السياسي،ولكنها تحاول قلب مفهوم التراجيديا من التأسي على الضحايا الى رصد بؤس المتجبرين، وتحويلهم عبر مختبرها كائنات هشة تغص بعطوبها السايكولوجية وبفجاجتها.
الرهافة والمهارة التي تدير بهما الكاتبة الشابة دفة وصفها، تبدو وكأنها تتجاوز مهمة الأدب نحو وظيفة تنفي عنه صفة تجميل الحياة وتزينها، فهي تفتح الأبواب المغلقة، لتقرأ ملفات شديدة الحساسية في وضع البشر لحظة انحطاطهم. هم كائنات لاتدرك مأزقها الانساني،بل يدرك القارئ دون ان يخبره النص مباشرة،الى اي مدى يمكن رصد تلك الشخصيات متلبسة بعريها المعيب.
عملية الاستدلال العقلي التي تتشكل عبر الوصف المكثف للشخصيات، تقوم على الانتقاء، فالكاتبة تستغرق طوال القصة الواحدة في تقليب الأوجه المتغيرة للشخصية الواحدة مستخدمة تورية هي أقرب الى السخرية الخفية، كي تبحر في دوافع واعتبارات تلك الشخصية. نوع من الترجمة لما يكمن خلف الشعور لقلب الحال الى ضدها. فهي تتبنى وجهة نظر الشخصية ذاتها في محاكاة لأفعالها وتصوراتها عن العالم، ولكنها وهي توازن مقاماتها في السياق القولي، تعيد اخراج وجودها الناتئ في الحياة، طفيليتها المستمدة من خراب شامل. السرد لايستخدم أفعال الهجاء ولا الاستنكار، ولكنه يقدم معرفة جوهرية بالشخصيات بدلا من المعرفة الظاهرية وتعميمات الرفض السائدة. تبدو النماذج وكأنها تعيش عالمها الفردي،دراما وجودها المفارق، ولكنها وهي تصنع احداثها وتدير عوالمها الداخلية، تضيء عالما أوسع منها وتشير اليه وتستنطقه.
يكتب فيصل دراج في مقدمة المجموعة: ((تنطوي هذه الكتابة على شهادة مزدوجة: شهادة على زمن موحش يملي التداعي مبتدأ الكتابة، وشهادة على مجتمع يجعل من ممارسة الأدب مهنة شاقة. إذ لا موقع للأدب في مجتمع يلهث وراء رغيف مفقود.)).
هل يمكن القول ان هذه القصص هي أقرب الى توثيق للسجلات الإجتماعية التي لاتدركها الكتابة إلا بمعايشة من نوع خاص؟ ربما يصح هذا الاعتقاد، ولكن ديمة ونوس تقدم لنا قصة أو أقصوصة يلتقي فيها طريقان: شفافية يوسف ادريس الذي تابع حالات شبيهة، وطريقة التعرية التي تقوم بها المحاكاة الهازلة، فنماذجها رجل الأمن الذي فقد سلطته، وامرأة المجتمع التي تكسب بجسدها، وابن الوزير المتفنن بجمع الثروات ومراكمة نفوذه، والضعيفة المتسلقة سلم الوظيفة، والمبشرة الدينية المتعصرنة،والثرية وسائقها الفقير، وباني الجوامع المتاجر بالثواب، وسواهم من النماذج التي تجمعهم فكرة واحدة، هي الخيط المفقود في مروية اجتماعية شديدة المرارة.
عوالم تلك الشخصيات شبه محدودة لاتتجاوز البيت والشارع والوظيفة،والسرد يختصرها في تعاقب بين الوصف الخارجي وتداعيات الداخل المرصود، ولكن البهلوان والدجّال والمتسلق، لهم تنطعهم البلاغي ومفرداتهم الخاصة وشعاراتهم الرائجة، وهي كليشيات عادية، ولكنها شيفرات الوصول الى الهدف، حين تتحول تلك الشعارات كذبة تصدّق نفسها.
لن نعثر بين هذه القصص على حصة للعشق والعشاق أو قضايا النساء، فالنموذج النسائي في سردها يطرح معادلة الضعف والتسلط، أو السلطة الانثوية من حيث قدرتها على الابتزاز واستثمار الفرص.
سنجد في كتاب ديمة ونوس بعض ضعف في اللغة، وهذا شأن التجربة الأولى،ولكنها تمسك بالسرد بتمكن ومعرفة بأصول القصة القصيرة، متجاوزة بجرأتها ونباهة قصدها ونبله، كل عوائق البداية، مذّكرة بما انتهى إليه والدها الذي كان شديد الحرص على ان يبقى نصه وباختلاف مراحله،معبرا عن صوت الانسان الضعيف والمقهور
.أفضل ما في الكتاب هو ان للكاتبة صوتها الخاص،واعتباراتها التي تبحث عن التفرد وتؤشر الى البحث عن أدب شاب جديد ستكون هي من صنّاعه.
التعليقات