تحتل أغنية (يامركب الهند) مكانتها كواحدة من الأعمال التراثية الجميلة التي قيلت في نهاية القرن الثامن عشر وهي للشاعر (يحيى عمر أبو معجب اليافعي) من يافع في اليمن المتوفى عام 1906والذي دائما ما يفتتح قصائده بذكر اسمه وذلك لحفظها وتوثيقها. أول من تغنى بهذه القصيدة هو الفنان ضاحي بن الوليد (رحمه الله) ثم غناها الفنان العماني سالم الصوري بأسلوب آخر وهو من مسجلي الاسطوانات في البحرين في نهاية الخمسينات الميلادية من القرن الماضي، أيضا قدمها الفنان محمد عبده عندما اختار (يامركب الهند يابو دقلين.. ياليتني كنت رباناه) وأضاف عليها عدة أبيات منها (لكتب على دفتك سطرين.. اسم حبيبي وعنوانه) كمذهب للعمل مع تركيب كلمات الكوبليهات الأخرى بأسلوب آخر وجديد، وقد قدمها محمد عبده في مسلسل (أغاني في بحر الأماني) في العام (1969م) وأيضاً في حفلة (أضواء المدينة) في القاهرة.

يحيى عمر اليافعي تميز بقدرته على تقديم نفسه في كل قصائده وتوثيق لحظته الراهنة، فهو دائما ما يصف الواقع وينشده خاصة عندما يكون معجبا في شيء كما هو في هذه الكلمات الوصفية المميزة:

يحيى عمر قال قف يا زين

سالك بمن كحل أعيانك

من علمك ياكحيل العين

من ذا الذي خضب أبنانك.

من شكلك في الحلا شكلين

وشك لولك ومرجانك

وراك يا بارز النهدين

كفتني تحت روشانك

في الأصوات الغنائية التي تستخدم لغة الأنغام والمّد للتواصل الإيقاعي ولتقديم الكلمات بجرس ثابت دون اختلال، يكون الحس الغنائي أجمل وأرقى، وقصيدة اليافعي في مذهبها الأصلي تبدأ بوصف (كحيل العين) وذكرها في جملتين متتاليتين متناغمتين، والمقصود المجازي من الوصف في القصيدة هو المعشوق، والشاعر هو المتيم الذي يهيم في وصف محبوبه، ويسرد ما في إحساسه بكلمات متدفقة متتالية تجذب كل من يسمعها.

وقد تمثّل المغنون بهذه الروح المشعة من القصيدة وغنوها بلحن متسق مع إحساس العشق والوله، وكان أول من حدد هذا اللحن الفنان ضاحي بن الوليد الذي لم يكن الفنان سالم الصوري أو الفنان محمد عبده إلا امتداداً لما رسمه في البداية..

ياعسكر الشاش بوصفين

وأنت ياباشا في صيوانك

حملت يحى عمر حملين

وصرت تعبان من شانك

لي شهر في شهر في شهرين

وانا مناظر لبستانك

لا ذقت حبه ولا ثنتين

نهبت خوخك ورمانك

بعض الشعراء يتباهون في قدرتهما على الوصف خاصة إذا كان وصفاً دقيقاً يرسم ملامح المحبوب بوضوح، مثل هذه القدرة تتضح في أغنية (يامركب الهند) التي سجلت بالإضافة إلى رسم أوصاف الحبيب، رسماً دقيقاً للواقع المعاش حينها، ولتكون بذلك شهادة ووثيقة من ذلك الزمن الجميل مثلها في ذلك مثل العديد من القصائد والأغاني التراثية.

كلمات أغنية (يامركب الهند يابو دقلين) ترسم في الظاهر وصفاً لصناعة المراكب البحرية التي تحتوي على (الدقل) وهو ما يرسي المركب على سطح الماء..

والورد شفته على الخدين

وهو مطرح على أوجانك

يامركب الهند يابو دقلين

ياليتني كنت ربانك

أسعى بك البر والبحرين

واحمل المال بأخنانك

لك قسم في قسم في قسمين

لك قسم زايد على أخوانك

لكن ما يبدو في باطن القصيدة هو وصف للحبيب، ورسم لملامحه، وتصوير لمعاناة الشاعر ولوعته واشتياقه، كل التفاصيل اللغوية والنغمية تعطي هذا الإحساس الدافئ الذي التزم به جميع من تغنوا بهذه القصيدة بما في ذلك الفنان محمد عبده الذي حاول أن يستخدم أنغاماً مختلفة إلا أن الإحساس العام ظل كما هو ولم يتغير.

والمصلحة بيننا نصفين

لا ربّح الله من خانك

ياليت لي عند اهلك دين

أروح أجي على شانك

وأختم قصيدي بذكر الزين

بكره نقيل بديوانك

المشوار الذي قطعته هذه الأغنية منذ أن كتبت كقصيدة يجعل منها شاهداً على مسيرة الغناء الشعبي الخليجي وتوثيقاً لمراحل تطوره، وما ثباتها واستمرار وجودها إلى اليوم إلا دليلاً على تفردها، فمن ضاحي بن الوليد إلى سالم الصوري إلى محمد عبده ومازالت تغنى وتقال -سواء أكانت قصيدة أم أغنية- في سائر الخليج العربي، وفي هذا أبلغ إثبات على أنها من المع الذهبيات التي كونت من واقعها حساً جميلا كلاسيكيا يظهر بين لحظة وأخرى.

anaser@alriyadh.com