دخل علي بدر عالم الرواية من بوابات النقد الساخر للثقافة والمثقفين العراقيين، منذ روايته الأولى (بابا سارتر) مرورا ب (الوليمة العارية)وصولا الى روايته الأخيرة (الركض وراء الذئاب) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
انه يمضي مسرعا الى ماهو موضوع نقاش يومي في حلقات الثقافة والمثقفين، ليحوله الى روايات، سواء كان هذا الموضوع تاريخا او شخصيات أو إحداثيات. ولعل مشروعه هذا يدرج في باب التعويض عن كسل وتوجس عراقي من تأسيس تقليد روائي بين مقوماته نقد الأفكار والمفاهيم والمنظومات وإعادة النظر في مقوماتها.
رواية (الركض وراء الذئاب) حوارية عن الثوار الذين أطلق عليهم في العراق اسم "اليسار الشيوعي"، ومعظمهم من المثقفين الستينيين الذين شكلوا نواة حرب التحرير في المستنقعات الجنوبية من العراق، وانتهى بعضهم محاربين وإعلاميين وكتاباً في المقاومة الفلسطينية، أو مهاجرين الى الغرب.ولكن علي بدر يجد لهم أرضا جديدة في أفريقيا تجمع الرثاثة العالم ثالثية الى الجموح والإندفاع الثوري، في تواشج بين زمنين للشيوعية، زمن انحطاطها على يد منغستو مريام في اثيوبيا، وزمن أفولها كقوة عالمية.
يتقاطع هذا النص مع رواية (وليمة لأعشاب البحر) لحيدر حيدر التي تقارب الموضوع ذاته، فحيدر الروائي السوري، ينظر الى هذا الزمن وبطله العراقي بحنان ومشاركة وتفهم، ويطرح علاقته مع المرأة بما يوافق مزاجه هو كروائي ستيني، فكان هذا الجانب في الرواية أحد أسباب منعها في مصر واندلاع تظاهرات طلبة الأزهر ضدها باعتبارها من الأعمال الفاسقة.
ومن المفارقات أن الرواية لم تُجّرم إلاّ قبل سنوات قليلة بعد أن تعدى عمر نشرها العقدين. في حين يستخدم علي بدر كل أسلحة الشتيمة التصويرية واللفظية كي يجرد أصحاب هذه التجربة من أي سمة تنسب اليهم صفة البراءة أو نبل الغرض، ويتخيل مآل المرأة الوحيدة التي تورطت في هذا المشروع، وتعرضت بسببه الى التعذيب في السجن، عاهرة ومتشردة في شوارع أديس أبابا.
هل نبحث عن الاختلاف في المعايير الأخلاقية بين جيلين روائيين؟ لا أظن أن الأمر يكتسب قيمة ما، ولكن الأكثر أهمية فيه أين يمضي الفني كي يحدد مصائر النوع الروائي نفسه ومنطق النص.
رواية (الركض وراء الذئاب) تتداخل فيها أيديولوجيا السارد مع صوت البطل، فكل كلمة تقال تصدر حكما أخلاقيا او حقوقيا أو سياسيا، فهي في جانب كبير منها تنحصر في إطار الكشف عن عطوب مشروع الثورة والثوريين، حين تحول الى كذب ودجل ورعاية للدكتاتورية والدكتاتوريين. والبطل في خاتمة الرواية يقدم خطابا يتجاوز العشرين صفحة، يلقيه على عشيقته في بار أميركي، دون أن تبدر منها كلمة تعقيب واحدة او إشارة الى وجودها. نوع من التسويات بين منلوج التداعي الحر، ومنبرية تحتفي بالإلقاء الذي يزيد من قوة التنديد والتحقير الهجائي.
ولكن الموقف النقدي للرواية الذي يجسده صوت الأنا الساردة، لايعني ايمانا بالمسلّمات الضد، فالبطل يختبر الكلام والأفكار والمواقف في حركة متموجة صعودا وهبوطا، مزيحا عن كتفه أي عبء يمكن ان يدفعه الى فخ اليقين. علي بدر يفتح سجلات حوار المقهى الثقافي، مترفعا عن تصوير تواشجات الحياة النابضة، فكل شخصية يصورها تصبح نموذجا روائيا يمثل أو يعكس فكرة تتطابق مع المقولات التي حشرت في اطارها. غرضية الشخصية نجدها في معظم روايات علي بدر، ودافعها الأول تعرية الفكرة لا الحياة الإنسانية التي أنتجتها، ولا هوامشها المهملة التي تبوح ولاتصرح بمقاماتها في الصراع. وهو قول نسبي في تاريخ روائي مكثر مثله، ولكن هذه الفكرة تلوح في روايته الأخيرة على أوضح ما تكون.
مقولة رواية (الركض وراء الذئاب) تتمحور حول مفردة "المواقع" من حيث هي ارتفاع او انخفاض في سلم المكانة الإجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل هي تحدد قوة الأمم وقيمة قراراتها، فالغرب على هذا الاحتمال، هو وحده الذي يصنع التاريخ ((التاريخ يصنع في الغرب، وما كنا نفعله هو استحلامات نظرية في البارات)). هكذا يقول جبر سالم الصحافي القادم من الناصرية الى بغداد، والحالم بثورته الفاشلة من الأهوار حتى حانات أفريقيا المتعفنة ((لقد خدعوني، ولم اكن أعرف أن أفريقيا زبالة والثورة هراء.)). من موقع الإيمان والزهو بالعقيدة ينحدر جبر سالم نحو موقع الرثاثة التي تحوله الى متشرد وسكير.
المواقع التي تسكن هاجس الراوي تتجسد صعودا في نموذج العراقي المهاجر الذي لايعمل في السياسة، على رغم ايمانه السابق باليسار وميوله الراهنة نحو اليمين المحافط في أميركا. يشتغل محللا للأخبار في وكالة أنباء أميركية (وكالة الصحافة الأجنبية)، ويجد نفسه على توافق مع كل مقومات الإرتقاء المجتمعي والسياسي في هذا البلد. فقد تزوج من أميركية تضاعف وزنها حسب المتعارف عن الشعب الأميركي، وهي وأبناؤها يجسدون الجانب الشره لما يسمى النزعة الاستهلاكية الرأسمالية. الأب العراقي، صاحب الهوية الاميركية، يلبي حاجات عائلته، عبر التنقل بين التلفزيونات والاذاعات في مقابلات تخص مواضيع العراق وبلدان الشرق الأوسط، متاجرا بقضايا موطنه الأول، مثل غيره من المثقفين العارفين لغات أخرى، ولكنه يجد استراحته في أحضان عشيقة بولونية من المهاجرات الى أميركا.
يسافر البطل الى اثيوبيا بطلب من الوكالة التي يعمل بها، من أجل معرفة مصائر مجموعة من التروتسكيين العراقيين الذين انتظموا في حرب الأهوار في الستينات، وبعد فشل التجربة التحقوا بالجيش الأممي التابع لمانغستو مريام. لايلتقي إلاّ بشخصين محطمين من بقاياهم، ومخلّفات من أحاديث سمعها من رفاقهم الأثيوبيين، ولكنه يتعرف على ما خلّفته الدكتاتورية من أثر مروع بين المثقفين الأثيوبيين أنفسهم واليساريين منهم على وجه التحديد.
يعود البطل الى موقعه الأول في اميركا، متخيلا مصير البطلين الابرزين في التنظيم العراقي: أحمد سعيد الشاعر، الذي ينسج حول نفسه الأساطير الكلامية ويسمي نفسه جيفارا العراق، وصديقته ميسون ((التي كانت تريد ان تكون مثل جميلة بوحيرد وصارت عاهرة في فنادق الدرجة الثالثة)).
ربما نقترب في هذه المفارقة من كيفية بناء الشخصية في الرواية، فالدعوة الى التوحد بين العهر والثورة، او حرية الجسد المطلقة والرغبة في الانعتاق السياسي، وردت في ابطال روايات غربية كتبت عن جماعات التمرد الأميركية والفرنسية والالمانية في الستينات، ولسنا هنا في باب المطالبة بالتطابق بين الخيال الروائي والحقيقة الاجتماعية، غير ان مآل ربات البيوت العراقيات اللواتي خرجن من معاطف المعتقد الشيوعي، وتجارب السجون البعثية، يكاد يغمر الواقع بحقائقه المرة، ويجعل الجموح في توقعات سقف حرية المبادرة الفردية، محض مبالغة تقترب من الهزل لا الجد الروائي.
رواية (الركض وراء الذئاب) تتضمن عنصر الإمتاع الذي يقوم على تقسيم المواضيع على هيئة ريبورتاج صحافي، في تواشج بين التقرير الذي تطلبه الوكالة الأميركية من الشخصية الرئيسية، والاسلوب الذي تتحرك بين ثناياه لغة الأبطال المباشرة. وقدر ما تتشكل عوالم هؤلاء من ورق الكلام وتهويمات الألفاظ التي تمتليء بقاموس طويل ومتعب للشتائم، قدر ما يقترب كاتبها علي بدر من فكرة التماهي مع من تخيلهم أبطالا ستينيين، فهو يمحو أدلوجتهم اللفظة، ليحل بدلها أدلوجاته اللفظية عنهم، في منافسة تبدو أقرب الى تصفية حسابات ومواقع.
الرواية تحلّق على أجنحة السرعة، كمن يركض كاتبها خوفا من ان تفلت الأفكار من شباك الذاكرة، وهي ميزة تحسب لصالح فكرة التراكم، ولكنها تحتاج في موضوعها على وجه التحديد، تأملات متأنية ومحاجات روائية مقنعة سواء في طريقة صياغة الشخصية وتاريخها، أو مقام كلامها وتنوعاته. فهي رواية رأي وخطابة، حتى ولو إنطوت على تهكم وهزل، ومسرحها ممتع ولكنه ينحصر في مساحة ضيقة، مساحة المقالة الطويلة.
التعليقات