قبل أسبوعين اتصل بي صديق أمريكي يعمل مقدماً إذاعياً في راديو أمريكا الوطني، وسألني فيما إذا كنت قد شاهدت "المملكة"، قلت له: ماذا، أي مملكة؟.. فقال: فيلم جديد يتحدث عن العمليات الإرهابية التي ضربت السعودية، من الضروري أن تشاهده، لم تعودوا شعوباً غريبة (سوداوية ورجعية) كما تصوركم هوليود منذ عقود، بل أبطال وشركاء في العالم الحديث، هو فيلم جدلي مثل "سيريانا" أو "ميونخ".

بداية، أعترف لكم بأنني رغم متابعتي للكثير مما يعرض في الإعلام الغربي، إلا أنه لا يسعني أن أدلي برأي سينمائي، فنحن معشر المشاهدين متذوقون ولسنا نقاداً، بيد أني أظن أن بإمكاني أن أتحدث عن الجانب السياسي والثقافي في الموضوع. ولا أخفيكم أنه في السنوات الخمس الماضية باتت السينما الأمريكية والأوروبية تقترب من ملامسة موضوعات سياسية حساسة وجدلية خاصة بثقافتنا السياسية، وأبرز ما تقدمه أنها تسلط الضوء على تواريخ مهمة لاسيما الجانب المتعلق فيها بعلاقة الشرق - بالغرب حديثاً، وحتى علاقة الغرب - بأفريقيا. أفلام مثل "مملكة السماء" الذي يروي قصة الحملات الصليبية، و"آخر ملوك اسكوتلندا" الذي يروي حياة الرئيس الأوغندي عيدي أمين، أو فيلم "أيام المجد" الذي يروي تضحيات الجنود الجزائريين في الحرب العالمية الثانية، وغيرها الكثير، كلها أحدثت صدى كبيراً وأثارت نقاشاً واسعاً في عواصم كثيرة حول العالم. ولعل بروز فيلم "ميونخ" - الذي يناقش الصراع بين المنظمات الفلسطينية المسلحة وجهاز الموساد الإسرائيلي - هو أكثرها إثارة للجدل، لاسيما أن مخرجه ستيفن سبيلبرج من أصل يهودي هنغاري، وهو ذاته مخرج الفيلم الشهير "قائمة شندلر" الذي يحكي معاناة اليهود في المعسكرات النازية.

كسعودي أصبت بدهشة كبيرة حينما شاهدت فيلم "المملكة"، فلأول مرة أشاهد جزءا من تاريخ بلدي الحاضر - والذي عايشته يوماً بيوم ككاتب ومعلق على الأحداث - يمثّل ليس أمامي بل أمام ملايين المشاهدين في أمريكا وأوروبا. أن تكون في قاعة العرض وتشاهد بريطانيين وألمانا وأسبانا يجلسون بجوارك يشاهدون فيلماً عن وطنك، وعن قضية حساسة مثل الإرهاب يجعلك متوتراً وخائفاً، وتدور أسئلة عديدة في ذهنك: ترى ما الذي سيقولونه عن بلدي؟ وما هي الرؤية أو الانطباع الذي سيسجلونه عنا كشعب؟

الفيلم لمن لم يشاهده يبدأ بمشاهد مؤذية لإرهابيين - سعوديين بالطبع - يهاجمون مجمعاً سكنياً أمريكياً في الرياض، ويتمكن الفيلم من بث مشاهد الرعب والدموية في قلوب المشاهدين، ولكن وقبل أن ينتهي المقطع الأول يتمكن رجل أمن سعودي من تعطيل سيارة المهاجمين، ومن قتلهم قبل أن يفجروا أنفسهم.

أحداث الفيلم تدو حول وصول فرقة من المباحث الأمريكية (FBI) للرياض، ودور ضابط سعودي يدعي "فارس الغازي" مكلف بحماية هذا الفريق، وتتوالي أحداث الفيلم لتناقش الفوارق الثقافية بين الطرفين، ولكن ينتهي بتحول الفريقين إلى أصدقاء وشركاء في ملاحقة الإرهابيين، ولا يكتفي المخرج بذلك، بل يسقط الضابط السعودي صريعاً على أيدي الإرهابيين فيما يمسك به صديقه الأمريكي في لحظاته الأخيرة. نهاية تعكس التضحية السعودية في مكافحة الإرهاب.

هنا نصل للجانب السياسي والثقافي في الموضوع، فالفيلم يحمل رسالة سياسية للجمهور العريض ملخصها أن السعوديين شعب محافظ ومختلف عن الأمريكيين، ويوجد به المئات من حاملي الفكر المتطرف ومن المؤيدين له، ولكنه أيضاً ذو أكثرية رافضة للإرهاب وللقتل، ومستعدة للتضحية في مكافحة هذا التيار المتطرف.

أعتقد أننا إذا تجاوزنا - بعض الأخطاء والمبالغات التي حفل فيها الفيلم - فإننا بإزاء فيلم يخدم الصورة السعودية بعض الشيء، ويحسن إليها أكثر مما يسيء إليها. صحيح، أن البعض قد يدعي أن إظهار بعض السعوديين كمتطرفين متعطشين لقتل الجميع أمر يسيء لصورة السعودي، ولكن ألم تكن الأعمال الإرهابية التي تورط المئات من شبابنا فيها خلال العقود الماضية داخل وخارج السعودية كفيلة بتشويه صورتنا وجعلنا أكثر الشعوب ضحية لاتهامات التطرف الديني والإرهاب في العالم. إن فيلماً يقدم لك خمسين في المائة من الدعاية الجيدة خير لك من آخر يصورك مجتمعاً شريراً بإطلاق.

الفيلم - أيضاً - مرشح لأن يوقظ أسئلة داخل المجتمع السعودي، لعل منها: لماذا فشلنا حتى الآن في مواجهة هذا الفكر المتطرف داخلياً - رغم نجاحنا أمنياً -؟ ولماذا ما تزال قطاعات كبيرة من المجتمع السعودي غير مؤمنة بثقافة التسامح الديني؟ ولماذا ما نزال نراوح عند بداية النقاش رغم كل تلك الأعمال الإرهابية التي طالت المواطنين السعوديين قبل غيرهم؟

رغم مرور أكثر من أربع سنوات ونصف على حدوث أول عملية إرهابية - بعد أحداث 11سبتمبر - في الرياض 12مايو 2003، لم نصدر كتاباً واحداً يحلل الأزمة ويقرأها من وجهة النظر السعودية، ولم نتمكن من تحقيق أي حملة شعبية للتوعية ضد مخاطر "الغلو الديني"، وضد الآثار التدميرية التي تحدثها الثقافة المتشددة، وكيف تصنع موقف أجيالنا الشابة من الثقافة العالمية - ولا أقول الغربية -، ثم إن من المؤسف أن تروى حكاياتنا الذين نحن ضحاياها - ومنا جلادوها - من قبل الآخرين، وأن نتحول إلى مجتمع يقف ضد أي انفتاح اجتماعي أو تطور حديث، ولكننا في المقابل نسارع إلى اقتناء آخر المقتنيات الغربية، ويسافر الآلاف - من شبابنا وعائلاتنا - إلى الخارج للاستجمام والتعليم والتجارة في تلك البلدان التي نعتقد ضلالها، ويدعو البعض بزوالها.

المشكلة التي يعاني منها السعوديون، هو أنه دائماً ما يختطف صوتهم من قبل قلة من المنغلقين والمتطرفين، ولكنهم في المقابل لا يبادرون إلى تصحيح هذا الوضع، أو الوقوف ضد تلك العناصر التي تجبرهم نحو المزيد من الانغلاق والتشدد الديني. لعل السعودي اليوم، أكثر الناس شكوى من أشياء كثيرة - كتسلط المتشددين على حياته وخياراته الاجتماعية، وتورط الكثير من أبنائه في إرهاب الداخل والخارج - ولكنه لا يقوم بأي شيء لتصحيح هذا الوضع، بل على العكس فهو يسارع إلى تصديق دعايات التيار المتشدد ضد نقاد ظاهرة الإرهاب، ويشكك في أي فكر نقدي اجتماعي جديد، ويقدم دعاة التشدد الديني على المصلحين، وهو فوق ذلك سريع الأوبة لحضن الانغلاق الاجتماعي والحضاري بعد كل جولة حراك داخلية.

يؤسفني أن أقول ان كثيرا من صورتنا المشوهة في الخارج نتحملها نحن كمواطنين بالدرجة الأولى، ولأضرب لك مثالاً بسيطاً، عدد غير قليل ممن يحملون أفكاراً منغلقة اجتماعياً ومتشددة دينياً في الخطاب الاجتماعي السعودي المعاصر تخرجوا من جامعات علمية في الغرب، ولكنهم عادوا وهم إما متأثرون بالأيدلوجيا الأصولية، أو مصابون بعقدة نقص (دينية)، وردة فعل ضد - حضارية مضرة. أي أنه في الوقت الذي صرفت فيه الحكومة على تطويرهم وتعليمهم عادوا منغلقين ومتشددين وكأنهم لم يستفيدوا من الدراسات العلمية التي حصلوا عليها، وهذا قد يتكرر مع مخرجات برامج الابتعاث الجديدة.

إنها مشكلة أقرب توصيفاتها "النفاق الديني" و"الاجتماعي"، فهؤلاء الذين يسبون الغرب - وأمريكا بالذات - وحضارته المادية، ويحذرونك ليل - نهار من "الغزو الفكري"، ومن "المخطط الصهيوني - الماسوني" ضد الإسلام والمسلمين لا يتورعون أبداً عن السباق إلى السفر للتعلم في تلك البلدان، وهم يبررون سفرهم بغرض التعلم أو الاستشفاء، ولكنهم يتنكرون للثقافة التي صنعت هذا العلم، وحولت هذه المجتمعات لما هي عليه من تقدم مدني وحضاري. هذا هو ما يشوه صورة الإنسان السعودي، ويؤذي النماذج الناجحة والمتفوقة بيننا.

أحدهم كتب قبل فترة بحثاً مطولاً يحذر فيه من الثقافة الغربية، بل ويحذر حتى من دعاة الإسلام المدني بوصفهم مخدوعون، ويطالب بالعودة إلى عصر السلف، والتخلي عن مظاهر المادية والخواء الروحي التي ينتجها الخطاب التنويري - كما زعم -، وقد هلل له الكثيرون من تياره، وحين سألت عنه أحد المقربين منه، قال: لقد ذهب إلى الدراسة في احدى الدول الأوروبية.

إذا، هل نناقش هذه القضية التي تضر بصورتنا - وغيرها الكثير - أم ننتظر حتى تخرج هوليود أجزاء أخرى لفيلم "المملكة".

altoraifi@alriyadh.com