طالعتنا صحيفة الرياض يوم الأحد الماضي بصدور الحكم الشرعي بالسجن عشر سنوات، والجلد تسعمائة جلدة على أحد الجناة الذي قام باستدراج إحدى الفتيات عبر اتصالاتٍ هاتفية، ثم قام بمساومتها وتهديدها، ومن ثمّ القوادة عليها.
وبغض النظر عن مدى مناسبة هذا الحكم للجرم الصادر من المتهم، إلا أننا لا نعلم هل صدر هذا الحكم للحق الخاص أو للحق العام؟.
إذ يغلُب في الأحكام الصادرة بمثل هذه الجرائم البشعة أن تكون مجملة لم يُبيّن فيها الحق الخاص من الحق العام.
ومعلومٌ أن مثل هذه الجرائم تُلحق ضرراً بالغاً على المجني عليه، وعلى ذويه، وأوليائه؛ إذ قد تتحطم حياته بمثل هذه الاعتداءات، ويتضرر نفسياً ومعنوياً أضعاف الضرر المادي.
ولقد صانت الشريعة الإسلامية السمحة حقوق الأفراد في الجرائم التي تقع اعتداءً أو عدواناً على حق خاص، وذلك بتوقيع العقاب على مرتكب تلك الجرائم الذي يظل حكمياً حتى صدور حكم بات ليصبح بعدها واجب الاقتضاء، ولهذا فليس لصاحب الحق الخاص استيفاء العقاب على مَنء اعتدى على حقه حتى ولو رضي المعتدي بتنفيذ تلك العقوبة بعد اعترافه بارتكاب ذلك الجرم، بل إن الواجب عليه أن يسعى لاستصدار حكم قضائي يكفل له هذا الحق ويؤكده، وبهذا يتحول حق الفرد في عقاب مرتكب الجريمة من حق مجرد إلى حق محسوس، مما يترتب عليه صيانة المصلحة العامة التي تتمثل في حماية مرتكب الجريمة من أن يعتدي عليه وعلى أمواله ومصالحه.
وبذلك يتميز حق الفرد في العقاب بأنه حق قضائي، لا يمكن أن يستوفى إلا بحكم قضائي، حيث يعد مبدأ "قضائية العقوبة" من المبادئ الأساسية المقررة في الشريعة الإسلامية، أي أنه لا عقوبة بدون حكم قضائي، وبما أن لكل جريمة عقوبة فإن الجريمة التي تقع على حق العبد لا سبيل إلى توقيع العقاب المقرر شرعاً أو نظاماً على مرتكبها إلا عن طريق رفع الدعوى الجنائية الخاصة أمام القضاء الذي لا يتحرك من تلقاء نفسه، وإنما تحركه إقامة تلك الدعوى وصولاً إلى حكم قضائي يثبت الحق أو ينفيه.
وفي المملكة العربية السعودية لا تبرز مشكلة خيار المدعي بالحق الخاص، بأن يسلك أحد الطريقين الجنائي أو المدني في القضايا الجنائية التي يستتبعها تحقق الضرر؛ لأن التنظيم القضائي في المملكة يقوم على أساس توحيد القضاء في يد القضاء الشرعي المخول سلطة الفصل في الدعاوي الجنائية ودعاوي الحق الخاص، سواء كانت تمثل دعوى بذاتها أو ما يستتبع جريمة معينة، وهذا مضمون تعميم وزارة الداخلية وكذلك تعميم رئيس مجلس القضاة الذي ينص على أن: "قاضي الحق الخاص يحكم في دعوى الحق العام".
كما إن المادة السادسة والعشرين من نظام القضاء تنص على أن "المحاكم الشرعية هي صاحبة الولاية العامة بالفصل في كافة المنازعات والخصومات والجرائم عامة كانت أم خاصة، إلا ما استثني منها بنظام". كاختصاصات ديوان المظالم، وغيره من اللجان الكثيرة ذات الاختصاص شبه القضائي.
ولقد عالج نظام الإجراءات الجزائية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/ 39وتاريخ 1422/7/28ه موضوع مَنء لحق به ضرر من جراء الجريمة في الدعوى الجزائية، حيث نص على أنه: (لمن لحقه ضرر من الجريمة ولوارثه من بعده، أن يطالب بحقه الخاص، مهما بلغ مقداره أمام المحكمة المنظور أمامها الدعوى الجزائية في أي حالٍ كانت عليها الدعوى، حتى لو لم يُقبل طلبه أثناء التحقيق) .
مع ملاحظة أن المضرور في الدعوى الجزائية قد يكون هو نفس المجني عليه أو غيره، كأن تحدث محاولة سرقة لمنزلٍ مستأجر ويرافق ذلك تكسير للأبواب أو الجدران، ففي هذه الحالة يكون المضرور هو مالك الدار، وقد يكون المجني عليه غير مضرور.
ولرفع دعوى الحق الخاص أمام المحكمة الجزائية شروطٌ هي:
1أن يكون أمام محكمة مختصة.
2أن يكون لطلب تعويض ناشئ عن جريمة، والتعويض ناتج عن هذا الضرر.
وتتفق الدعوى الجزائية والادعاء بالحق الخاص في أصل واحد هو الجريمة، وتختلفان في السبب، والأطراف، والموضوع؛ إذ أن سبب الدعوى الجزائية هو الاضطراب الذي وقع في المجتمع نتيجة مخالفة الشرع أو النظام، أما السبب في الادعاء بالحق الخاص فهو الضرر الناتج عن هذا الخروج.
أما أطراف الدعوى الجزائية فهما الإدعاء العام الذي يمثل المجتمع والمتهم، في حين أن أطراف الإدعاء بالحق الخاص فهم المضرور من الجريمة، والمتهم، والمسؤول عن الحقوق المدنية.
أما موضوع الدعوى الجزائية فهي تطالب بإيقاع العقوبة كرد الفعل الاجتماعي على الاضطراب الذي سببته الجريمة، أما الادعاء بالحق الخاص فموضوعه تعويض مَنء لحقه ضرر من الجريمة.
وأغلب المدعين بالحق الخاص - على حد علمي - يعتقدون أن مطالبتهم بالحق الخاص قاصرة على طلب التعويض فقط، وهذا غير صحيح؛ بل لهم المطالبة بالعقاب كحق جزائي.
والنص على كون العقوبة للحق للخاص فيه فوائد لا تخفى؛ إذ به يحصل التشفي، وتطمئن به نفس المجني عليه، وأيضاً ليس لأحد التدخل في إسقاط العقاب على الجاني إذا كان حقاً خاصاً، بخلاف إذا لم ينص القاضي على كون تلك العقوبة للحق الخاص، أو للحق الخاص والعام معاً؛ فقد يشمله العفو من ولي الأمر؛ إذ معلومٌ أن لولي الأمر العفو على العقوبات التعزيرية التي تكون للحق العام، بخلاف العقوبات التي للحق الخاص فليس لأحد كائناً منء كان التنازل عنها أو إسقاطها إلا برضا المدعي بالحق الخاص، وتنازله عن حقه بطوعه واختياره.
ولذا فإني أتمنى أن من كل متضرر من الجرائم أن يعلم أنه له حقاً خاصاً مستقلاً عن الحق العام، وأن له المطالبة بالعقاب كحق جزائي أمام المحكمة المختصة، وأنه ليس لأحدٍ التدخل في العفو عن الجاني إذا كانت العقوبة صادرةً للحق الخاص.
@ باحث قانوني
Mohammed963@hotmail.com
1
هشام بن حمد
2007-07-07 21:14:50بوركت سواعد كتبت هذا المقال وبوركت عقول أخرجت هذا النتاج
مقال فريد من نوعه ومتميز في طرحه من جميع النواحي سواء من ناحية التركيب والصياغة ومن ناحية ايصال الفكرة الصحيحة للمتلقي بعبارات رصينة ووضوح الغاية والهدف..
فهنيئاً لجريدة الرياض بل هنيئاً لنا -نحن القراء- أولاً بهذا الكاتب وأمثاله.
2
حسام محمد
2007-07-07 05:06:03فعلا المدعي بالحق الخاص يتنازل عن حقه من غير أن يشعر..
أعرف الكثير ممن اعتدي على اموالهم أو اعراضهم ثم قاموا بابلاغ الشرطة ولم يتابعوا الموضوع
واذا سألتهم يقولون الدولة تأخذ حقي !!
المشكلة ان المدعي العام لا يتصل بهم ويبلغهم بالجلسة التي حددها القاضي للنظر في القضية..
الحق العام والحق الخاص متداخلة عندنا وغير واضحة
القاضي يحكم بعشر سنين وفعلا ما ندري هي للحق العام أم للحق الخاص..
الحق الخاص ضايع ولا أحد يستطيع التمييز بينهما
الف الف شكر للكاتب على هذا المقال الآكثر من رائع
ونتمنى دراسة الموضوع بشكل اكبر والتفصيل في الحق الخاص والعام..
3
حسين يوسف الدوسري
2007-07-06 14:22:52سلمت أناملك وطاب مسعاك..
قراءة معاصرة.. ورؤية واقعية لأحداث الحياة.. وتعامل جاد مع مشاكل المجتمع..
شكرا لصحيفة الرياض على تقديمها هذا الكاتب الرائع..