إن إغلاق جامعات الوهم لن يكون هو الحل، فمازالت الجامعات "العنكبوتية" وتلك العابرة للقارات قادرة على الوصول إلى طلابنا طالما أننا لم نبحث عن حلول عملية تنقذهم من هذا الضياع وتنقذ مجتمعنا من الأوهام التي تضعفه وتحوله إلى مجتمع هش يمكن كسره.

(1)

سمعت مؤخرا أنه تم إغلاق عدد من فروع بعض الجامعات "العالمية" التي تعمل في منطقتنا الشرقية، والحقيقة أنني لأول مرة أعلم ان هناك فروعا لجامعات في المنطقة والغريب أن لها سنوات وهي تعمل "دون رقيب" ويوجد بها عدد كبير من الطلاب السعوديين الامر الذي يجعلني اسأل في دهشة أين وزارة التعليم العالم من كل هذا. بالنسبة لي كانت الحالة صادمة لأنها تعبر عن اليأس الذي وصل إليه طلابنا، فمن الواضح أن هؤلاء الطلاب الذين التحقوا بهذه الجامعات لم يكن يهمهم إلا الحصول على الشهادة وبأي شكل كان أما مسألة "معادلة الشهادة" فهذه مرحلة أخرى فطالما أن هناك من يأتي إلى بلادنا كطبيب ومهندس وبعد عقود نكتشف أن شهادته مزورة إذن فالمعادلة "سهلة" ويمكن أن تمر على وزارة التعليم العالي بسهولة. في اعتقادي أن هذا هو أقوى المبررات التي تجعل من طلابنا يبحثون عن الشهادة وليس التعليم ويجعل من بعض الجامعات التجارية "الدكاكينية" تجد لنفسها مكانا في سوق التعليم "السوداء" وتفتح لها فروعا في شقق ليس لها عقد إيجار (وهو ما سمعته عن احدى الجامعات التي أغلقت في مدينة الدمام). حالة فريدة تعبر عن حالة الضياع التي يمكن نعيشها في ظل غياب "الجودة" التي يفترض انها تدفع طلابنا للبحث عن الأفضل بدلا من التوجه لأي "جامعة شوارعية" للحصول منها على ورقة تفتح الأبواب المغلقة. أنها ثقافة العمل "التائهة" التي جعلت من الأوراق أهم من الكفاءة وأغلقت كل الأبواب أمام شبابنا وأنا أتذكر هنا ان المهندس عبد اللطيف بن عبدالملك آل شيخ (رئيس مركز المشاريع بالهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض) علق ذات مرة على نقدي المستمر للتعليم بأن المشكلة لا تكمن فقط في التعليم بل ان بيئة العمل نفسها لا تهيئ المناخ الملائم لصنع مجالات إبداعية أمام شبابنا. بيئة العمل الفقيرة تجعل من الشاب يبحث عن الوظيفة بكل الوسائل حتى لو كان ذلك بشراء الشهادات وقد وجدت بعض الجامعات التي تبيع الوهم فرصتها في بلادنا خصوصا مع هذا الغياب "الغريب" للمراقبة.

(2)

تخيلوا معي أن جامعات يتعلم فيها آلاف الطلاب السعوديين تعمل في المدن السعودية (وأنا على يقين أن مدينة الرياض وجدة يوجد بها ضعف ما اكتشف في الدمام وربما أكثر)، وتخيلوا أن هذه الجامعات تعمل منذ سنوات دون تراخيص ولم يسأل الطلاب ابدا عن الجامعة هل هي معترف بها أم لا، وتخيلوا أن هؤلاء الطلاب لا يتعلمون شيئا لأن هذه الجامعات ليس لها فصول دراسية (بحجة التعليم عن بعد واستخدام وسائل الاتصال المنزلية طبعا) وتخيلوا أن المبدأ الذي قامت عليه هذه الجامعات هو إعطاء الشهادة (على طبق من ذهب) من الجامعة الأم (أي من المركز الرئيس، إذا كان هناك مركز رئيس للجامعة) بعد سلب أموال الطالب، فأمر التعليم نفسه لا يعني "جامعات الوهم" ومستقبل المجتمع وما يمكن ان يحدثه هذا التعليم الوهمي من أضرار بالغة لمجتمعنا لا يعني هؤلاء "المرتزقة" طالما أنهم سيحصلون على أموال طلابنا "المساكين الواهمين". وأنا هنا لا أعطي العذر للطلاب ولا يمكن ان ابرر التحاقهم بمثل هذه الجامعات لولا أنني اسمع الكثير من الحالات المضحكة المبكية التي يتم اكتشافها كل يوم في سوق العمل لدينا، وكلها تؤكد أننا سوق مخترق وليس لدينا أي معايير يمكن أن تكشف المزورين، فليس من المستغرب إذن ان نسمع عن جامعات تقدم برامج تعليم "طبية" بالمراسلة وأن تجد من يصدقها في بلادنا ويدفع أمواله للحصول على شهادة في الطب بالمراسلة ثم بعد ذلك يجد من حصل على هذه الشهادة فرصة عمل كطبيب في مؤسساتنا "العريقة". إنها صورة قاتمة وسوداء تعبر عن المستوى المتهلهل الذي وصل إليه سوق العمل لدينا والذي شجع من وجهة نظري طلابنا للبحث عن وسائل غير مشروعة للحصول على شهادات وهمية طالما انه لن يدقق عليهم أحد وطالما انهم سوف يجدون فرصة للعمل بهذه الأوراق الوهمية ليتعلموا الحلاقة في رؤوسنا وليدمروا كل تنمية يمكن أن نبنيها في المستقبل.

(3)

لقد أصدرت لي المؤسسة العامة للتدريب والتعليم الفني مؤخرا كتابا بعنوان "أفكار في الثقافة المهنية" وقمت بإهدائه لأحد الأصدقاء وفتح الكتاب ووجد أنني كتبت ان وزارة المعارف تبنت أخيرا "التربية المهنية" وانها قررت إدراج التعليم المهني ضمن مناهج التعليم الثانوي وصار يضحك كيف انني اقول هذا في كتاب يفترض انه يحكي عن الواقع ويرسخ مفاهيم قيمية ومعرفية في الثقافة المهنية فقلت له إن الكتاب عبارة عن مقالات قمت بكتابتها بين عامي 2000و 2006والفكرة التي أشرت إليها هي تعليق على خبر نشر قبل اربع سنوات أو اكثر وكنت متفائلا به لدرجة انني كتبت ابشر القراء بهذا التحول الذي طرأ على مبادئ الوزارة "التلقينية" التقليدية المتحجرة. طبعا لم يتحقق الخبر ولم تحرك الوزارة ساكنا سوى انها غيرت مسماها إلى وزارة التربية والتعليم. والواضح بالنسبة لي أنه ليس فقط الجامعات العابرة للقارات من يبيع الوهم بل وحتى مؤسساتنا الرسمية التي تقول ولا تفعل وتكرس الأوهام في عقول طلابنا ولا تريد أبدا التطوير بل تعمل المستحيل من اجل "السكينة" و"التسكين". حالة وزارة التربية والتعليم وأفكارها "المستحيلة" تتكرر في اغلب الوزارات كون التغيير غالبا لا يكون محسوبا بدقة لأن كل تغيير يتطلب رؤية شاملة لكل آليات العمل وحسابا دقيقا لكل الموارد (البشرية والمادية) التي تملكها المؤسسة، وهو ما لا يمكن أن اثق ان وزارة التربية يمكن أن تفكر فيه في يوم لأنها عودتنا على "بيع الاوهام" و "الشعارات" بدلا من التغيير الجاد والفعلي.

(4)

يذكر لي أحد الزملاء (وهو مدرس ثانوي) أنه مر في تايلاند على مدرسة ثانوية ولفت نظره وجود طلاب في ساحة المدرسة بلوحات الرسم يقومون برسم لقطات حرة فدخل وسأل عن المدير وأخبره انه مدرس ثانوي ويريد أن يطلع على المدرسة فرحب به المدير وأخذه في جولة على المدرسة التي كانت تحتوي على ورش للميكانيكا وورش للكهرباء والحاسب الآلي (ليس فقط لتعليم الحاسب بل لتفكيك وتركيب وإصلاح اجهزة الحاسب) وغيرها من ورش ومختبرات. والحقيقة المخجلة هي انه لا نعلم عندما يزور احد أي مدرسة ثانوية لدينا ماذا سيشاهد غير الفصول والكراسي وربما الطلاب والمعلمين. ليس مستغربا إذن أن يصبح بيع الوهم حالة مجتمعية تكرسه حالات الاستعجال التي شكلت ثقافة تدفع إلى البحث عن كل الوسائل الممكنة وغير الممكنة من اجل الوصول إلى الهدف، وإذا ما كان الهدف أصلا هو الحصول على "تذكرة دخول"، فسيكون المطلوب هينا، مجرد شراء هذه التذكرة، لذلك فإنه ليس مستبعدا أن يظهر بيننا من يحاول ان يبيع هذه التذاكر لأبنائنا، طالما أن مؤسسات التعليم لا تقوم بواجبها ولا تصنع التأهيل المطلوب لشبابنا. وجود جامعات وهمية هو جزء من مكون سوق العمل ومن بيئة التعليم التي ترفده بأنصاف المؤهلين فأصبح هناك توقع دائم أن من يتخرج من المدارس والجامعات السعودية هو غير مؤهل أصلا وغير قادر على العمل فما الذي يمنع الجامعات الوهمية ان تبيع لطلابنا الشهادات طالما أن عدم التأهيل هو الحالة العامة، فسواء كانت الشهادة من جامعة معترف بها أو غير معترف بها وسواء كان الخريج متميزا أو غير متميز سوف يجد له مكانا في سوق العمل لدينا. إنها حالة غير مسبوقة من الفوضى تعبر عن حالة بائسة وواقع مر.

(5)

وأنا هنا لم أنس الثلاثمائة ألف عاطل عن العمل التي أكدت وجودهم وزارة العمل والذين رفض مجلس الشورى مؤخرا إعطاءهم إعانات على شكل مكافأة شهرية، ولا اعلم لماذا رغم أن كل دول العالم تجيز إعطاء العاطلين عن العمل مكافآت إعانة إذا ما عمل عددا من الساعات الأسبوعية فمثلا في بريطانيا عندما يقدم احد ما على إعانة دخل يجب أن يكون يعمل على الأقل 15ساعة في الأسبوع أي ثلاث ساعات يوميا وهي حالة تشجع العاطل على العمل. المهم هذا ليس موضوعنا فقط أردت أن أعرج على الموضوع لأبين "ثقافة الرفض" دون تقديم الحلول و"ثقافات الشعارات" دون فهم حقيقي للواقع الذي تمارسها مؤسسات مهمة مثل مجلس الشورى الذي لم يقدم حتى الآن مشروعا مهما منذ تأسيسه، ولم يسلط الضوء على قضية تحولت إلى حالة إصلاحية، ولم يلفت النظر لواقع يحتاج لتغيير وأنا هنا لا أريد أن أكون متجنيا لكن العبرة بالنتائج وليس فقط بالأفكار. في اعتقادي أن هؤلاء الثلاثمائة ألف صيد سهل لجامعات الوهم خصوصا وأننا أغلقنا جميع الأبواب أمامهم بل ولم نعلمهم شيئا فوزارة التربية مازالت تفكر في كيفية حساب الدرجات وهل نقيم الطلاب أم نختبرهم بينما لا توجد ورش عمل مهنية ولا مختبرات ولا معلمون مؤهلون ولا بيئة تعليمية ملائمة ولا بيئة تقنية تسمح لطلابنا الدخول للقرن الجديد. ماذا نتوقع بعد كل هذا أليس من حق هؤلاء الثلاثمائة ألف أن يعيشوا مثل كل الناس في هذا البلد. وأنا اكرر مرة أخرى أن هذا لا يعطيهم مبررا أبدا لشراء الشهادات لكن لابد أن نساعدهم على إيجاد حلول عملية تحفظ لهم كرامتهم وتوفر لهم العيش الكريم.

(6)

خلال الأسبوع الفائت أتيحت لي الفرصة للالتقاء بشرائح مفكرة متعددة من مجتمعنا زارت جامعة الأمير محمد بن فهد، كانت الرغبة في تطوير تعليم متميز فعال يصنع العقل ويطور العمل المهني أكيدة، لكني شعرت كذلك أننا بحاجة إلى بناء جسور الثقة من جديد مع من يقدم العمل ومن يدير القطاع الخاص، فهؤلاء فقدوا الثقة في تعليمنا ويرون أن كل ما يمكن أن تنتجه مؤسسات التعليم هو غير صالح للاستخدام. إعادة الثقة مسألة بحاجة إلى بناء المثال والقدوة وهو أمر يجب ان نبحث عنه ولا يكفي أبدا أن يكون على مستوى التعليم العالي بل يجب ان يبدأ من السنوات الأولى للتعليم.

(7)

ربما تكون الكلمة الأخيرة التي استطيع أن أقولها هنا هي أن إغلاق جامعات الوهم لن يكون هو الحل، فمازالت الجامعات "العنكبوتية" وتلك العابرة للقارات قادرة على الوصول إلى طلابنا طالما أننا لم نبحث عن حلول عملية تنقذهم من هذا الضياع وتنقذ مجتمعنا من الأوهام التي تضعفه وتحوله إلى مجتمع هش يمكن كسره. حلولنا يجب ان تبتعد عن "الشعارات" وعن "المشاريع الكبيرة" فهذه شعارات ومشاريع للاستهلاك الأعلامي سرعان ما تختفي وينساها الناس ويبقي الوضع على ما هو عليه (مثل التعليم المهني الثانوي)، إنها مجرد مسكنات لن تقدم أي حلول وسوف نجد أنفسنا كل مرة امام معضلات كبيرة نستغرب كيف تركت حتى وصلت إلى الدرجة التي هي عليه. أتمنى ان نستفيد من المليارات التي خصصتها حكومة خادم الحرمين حفظه الله لتطوير التعليم وأن لا تضيع هذه الأموال على لجان وانتدابات ومشاريع وهمية ليس لها أي قيمة فقد جربنا الكثير من الأحلام حتى اني قلت لا بد أن اكتب عن "أكدمة الأحلام" وهي حالة أكاديمية سعودية غير متكررة.