لو لم يتزامن مؤتمر "باريس 2" مع وصول طلائع المفتشين الدوليين الى العراق، لكان الاهتمام العالمي به اكبر. فقد كانت أنظار العالم غرباً وشرقاً مركزة على مشهد دولي لا يماثله من حيث إثارة اهتمام الناس به إلا تلك المشاهد التي سبقت إعلان الحرب العالمية الثانية أو انهاءها. هذا مع العلم أن عصر عولمة الإعلام يعطي كل ما يجري حالياً أهمية في عقول الناس وأعصابهم أين منها ما كانت تشيره في النفوس أهم الاشتباكات الحربية والسياسية العالمية.

مع ذلك استطاع مؤتمر "باريس 2" أن يستقطب الناس في كل مكان يراقبون تفاصيل ما كان يجري فيه.

لعل السبب الرئيسي في ذلك هو أنه في مؤتمر "باريس 2" كما في مجريات الصدام الأمريكي - العراقي، كان الشرق والغرب موجودين في هذا الحدث ولو على قياس أكثر تواضعاً. فقد كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك من جهة يمثل الغرب كله بشكل أو آخر ومصالحه ومفاهيمه وقيمه. وكان لبنان في المقابل مع رئيس حكومته رفيق الحريري يمثل الشرق وحقوقه ومصالحه المهددة وأشواقه إلى إثبات الوجود في عالم رجحت فيه قوة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على كل قوة أخرى.

صحيح أنه لا تستطيع فرنسا أن تكون بديلاً عن أمريكا، لا في مؤتمر "باريس 2" ولا في غيره، كما لا يستطيع لبنان أن يمثل كل الشرق وأهم ما فيه، إلا أن الحجم الإعلامي والفعلي الذي أخذه مؤتمر "باريس 2" استبغ عليه أو ألبسه ثوباً تاريخياً رمزياً فائق الأثر.

كان المؤتمر من حيث دوره أشبه بذلك النفق ذي المفعول السحري في أنظار الناس الذي وصل بريطانيا بفرنسا فأصبحت الدولتان المتباعدتان قطعة أرض واحدة موصولة. وهذا ما صنعه مؤتمر "باريس 2" حين شق هو الآخر ممراً بين الشرق العربي والإسلامي من جهة والغرب من جهة ثانية.

ظهر شيراك عبر المؤتمر صاحب مشروع إزاء الشرق أشبه بمشروع مارشال الأمريكي لمساعدة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وظهر لبنان وممثلوه بالمقابل كطليعة قارة، بل قارات، لها ما تعطيه إلي الغرب كما لها ما يجب أن تأخذه منه.

ما أن بدأت تخرج إلى العلن نتائج مداولات المؤتمر حتي اتضحت للمراقبين نتائج الدعم الدولي المتجاوز مجموعة من العثرات كانت تواجه المؤتمر وتمثلت في نقاط صنّفها الخبراء بأربع، هي أولاً الظروف الدقيقة التي تمر فيها المنطقة وهي على عتبة حرب محتملة على العراق، مما يهدد إطاحة كل جهود السلام بما في ذلك مساعدة لبنان في الصمود، وكان لوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل موقف لافت إزاء القلق الذي أبدته بعض الدول المشاركة من أي تطورات على صعيد المنطقة، حيث أكد أن المساعدة التي تُقدم إلى لبنان حالياً هي الأقل كلفة من أي بديل آخر.

كما أن إسرائيل مارست، كما قيل في أروقة المؤتمر، ضغوطاً على عدد من الدول الأوروبية لحملها على عدم تقديم دعم إلى لبنان بذريعة أنه لن يكون مجدياً.

وهناك ثالثاً الظروف الداخلية لعدد من الدول مثل ألمانيا التي أبدت استعدادها للمشاركة في دعم لبنان من دون مساهمة مالية نظراً إلى أوضاعها الاقتصادية، ومثل اليابان التي تمر في ظروف مماثلة.

وكذلك راعت بعض الدول الموقف الأمريكي وموقف صندوق النقد الدولي بضرورة وجود برنامج معه لمتابعة الاصلاحات. وكان ذلك ذريعة جيدة لهذه الدول إما لعدم المساعدة أو لاشتراط برنامج مع الصندوق أو تقليص حجم مساهمتها. وهذا ما يفسّر تراجع هذه الدول الأوروبية عما كان متوقعاً.

وسُجّل موقف بارز لشيراك حين ذكّر رئيس الوزراء الكندي جان كريتيان بالتزامات بلاده، فقرر رفع المساهمة الكندية من (100) إلى (200) مليون دولار. ودفع الحجم المرتفع للمساهمة الفرنسية وقدرها 500مليون دولار بلجيكا وإيطاليا إلي إعادة النظر في مساهمتها التي كان يُفترض أن تكون موازية لما قدمته فرنسا. غير أن بلجيكا لم تقدر على تخصيص هذا المبلغ الكبير وفضّلت إيطاليا تخفيض مساهمتها في انتظار إقرار برامج الخصخصة التي أبدت اهتماماً بالمشاركة فيها.

واستأثر النقاش حول دور صندوق النقد بقسم كبير من مؤتمر "باريس 2". وكان هناك إجماع على تبني قرار الدعم الدولي للبرنامج الحكومي اللبناني انطلاقاً من أهمية تأمين استقرار البلاد ومنع سقوطها في أزمة مالية في ظل الظروف الاقليمية الراهنة. وتقرر أن يقوم صندوق النقد بالمتابعة الدورية لخطوات الحكومة وعلى تقويم الإجراءات المتخذة بعد ستة أشهر من خلال انعقاد مؤتمر "باريس 3" الذي ستقتصر المشاركة فيه على المعنيين مباشرة بالملف أي فرنسا ولبنان وصندوق النقد والبنك الدولي.

ما كان ضرورياً أن يكون المراقب داخل المؤتمر ليدرك حجم الحماسة التي كان يصفها الرئيس شيراك من اجل انجاح المؤتمر وخلق اجماع حول مقرراته.

والأمر كما تناولت الصحف الفونسية الموضوع لا يتعلق باهتمام شيراك باصدقائه دولا وشخصيات عربية، بل بما هو أبعد من ذلك، وهو صورته الديغولية التي لا تكتمل إلا بتجسيد ذلك التعاطف الخاص بين شارل ديغول نفسه وقضايا الشرق.

فواقع الأمر أن اهتمام ديغول بالقضايا المشرقية كان جزءاً لا يتجزأ من إطلالته كزعيم تاريخي قادر على موازاة زعماء كروزفلت وتشرشل. وكان حَمَلة تراثه من بعده أصبحوا يعتقدون أن صورتهم السياسية كقادة ديغوليين بحاجة كي تزهو وتتألق إلى علاقة ما مع بلدان خارج القارة الأوروبية،

وهذا هو في الحقيقة الكسب المعنوي الأساسي الذي عرف شيراك بسليقته السياسية المرهفة أنه ينبغي أن يخرج منه في هذا المؤتمر. ولعله ليس تكهناً محضاً القول أن شخصية ديغول كانت ماثلة في ذهنه، وهو يشعر أنه ينمّي قامته كزعيم سياسي مميز وهو يمثل مصلحة الغرب مع الشرق وأمل الشرق في الغرب. والفارق الوحيد بينه وبين ديغول أن الأمر لم يبلغ به حد اصطحاب الكتاب الخالدين معه على وزن اندريه مالرو لكي يسجلوا المكانة التي هو ناجح في بنائها لنفسه مع شعوب ودول وقيادات تمثل حضارات وأديانا كانت وستظل ذات ألق يضيف إلى هالة أية قامة سياسية مهما علت.

بهذا المعنى تلعب رمال الصحراء العربية وسحر ماضيها في عين شيراك مثلما تعني آبار النفط نفسها. فإذا كان النفط ضرورياً لقدرة الدول وزعمائها، فإن ذكريات التاريخ الإسلامي والعربي العريق ضرورية أيضاً في نسج تلك الهالة الخاصة التي ترتسم حول الزعماء فتجعلهم يشعرون أنهم بشكل أو آخر من صُناع التاريخ أو من أبنائه النجباء الموهوبين الذين رضيت عنهم الآلهة وليس شعوبهم فحسب.

كذلك إذا كان شيراك بحاجة إلى ذلك الكبير في التاريخ الذي هو الإسلام، فإنه أيضاً بحاجة إلى سحر ذلك الصغير بين الدول والأوطان الذي اسمه لبنان والذي كانت له ولا تزال مكانة ما في قلب الفرنسيين وهو البلد - الوطن الذي عاش فيه أرنست رينان وغناه ورحل إليه وكتب عنه بحب لامارتين ودخل فيه التاريخ الجنرال غورو حين أعلن بعد الحرب العالمية الأولى لبنان الكبير.

كل هؤلاء كان يذكرهم شيراك على الأغلب حين كان يقوم داخل المؤتمر ببذل الجهود المضنية كي يخرج الحدث ناجحاً في جميع الوجوه بما فيه الزخم الحضاري والتاريخي المعروف عن فرنسا التقليدية الاهتمام به. وكثيراً ما انهمرت الأصوات الانتخابية في صندوق مرشح للانتخابات في فرنسا لأنه عاش مجداً أو ترك ذكرى في بلد قصي.

إن فرنسا لا تستطيع أن تكون في أي حال صاحبة سياسة مستقلة مئة بالمئة عن الولايات المتحدة الأمريكية. بل إنه ليس في مصلحتها ذلك. ولكنها قادرة على أن تكون الدولة الغربية الثانية بعد الولايات المتحدة في شؤون الشرق الأوسط وإن لها دوراً فيه ليس من مصلحتها أن تنساه. ولعله يفيد في تخفيف حدة السياسي المهدد بارتكاب أخطاء لسبب واحد هو الشعور بانعدام الشريك القادر وليس العدد القادر فقط.

إن مؤتمر "باريس 2" يستحق في نظر المؤملين خيراً فيه أن يوصف بأنه خفّف من حدة تلك الوحدانية الأمريكية التي كلما جاءت الأوضاع العربية والإسلامية، قفزت إلى ذهنها كلمة الإرهاب فجعلتها لا ترى صورة هذه المنطقة على حقيقتها فتخطئ في التعامل معها وتؤذي نفسها وأصدقاءها معاً. فإذا كان لهذا المؤتمر فائدة مباشرة واحدة، فهي في أنه قد جاء مثالاً على امكانية بحث شؤون هذه المنطقة بشكل عقلاني وحضاري حقيقي من شأنه أن لا يجعل الإرهاب والحرب عليه الاسم الآخر للمنطقة العربية - الإسلامية. وأي فارق قوي حقيقي بين هذا المؤتمر وثماره الخيرة وبعض تلك المؤتمرات التي تُعقد هنا وهناك في بلاد الغرب وليس لها عنوان سوى لفظة إرهاب. وكأن المنطقة العربية ليست هي العدو الحقيقي للإرهاب قبل أي جهة أخرى.