تاريخ علوم الطب والطبيعة، واللغة والنفس مثلا يختلف بالضرورة عن الصورة الأخيرة التي انتهت إليها هذه العلوم في أوضاعها المعاصرة، بعد أن أحرزت منجزاتها الملموسة في تاريخ البشرية والإلمام بهذا التاريخ له أهمية معرفية خاصة لإدراك تطور العلوم، لكنه لا يمكن أن يغني شيئا لمن يريد أن يقف على جملة حقائقها الراهنة. ومن اللافت للنظر ان مرتكزنا في دراسة علوم اللغة والأدب يكاد يقتصر على هذا الجانب التاريخي البحت، بل يتجاوز ذلك الى تصور غريب لتاريخ متجمد متكلس، ينكر على اللغة تطورها وحيويتها وحقها في التجدد المبدع، ويقف ليترصد ظواهر الأدب الجديدة لادانتها وخنقها. وإذا كانت البلاغة - بحكم بنيتها التقنية - أقرب منظومة العلوم الإنسانية القديمة لتحقيق قدر من التماسك المنهجي، فإن بحوثنا عنها لا تكاد تتجاوز تاريخها ومنطق عصرها. بل كثيرا ما تقع أسيرة لوهم كبير، يعد جزءا من الوهم الأعظم في علاقتنا بالتراث عامة، إذ نرى في بعض تجلياتها الفائقة الصورة الكاملة لأقصى ما يمكن أن تصل اليه المعرفة العلمية بظواهر اللغة والأدب. وذلك ناجم عن ضعف وعينا بحركية الأنساق المعرفية، وتراتب العلوم الإنسانية، وعوامل التوليد الاجتماعي الفاعلة في مسيرتها. بالاضافة الى التراكم الخصب للمادة الإبداعية ذاتها في العصر الحديث، مما يؤدي بالضرورة الى تغير نظمها وقوانينها. من هنا فإن باب تحول الأنساق المعرفية الذي أقدمه بين يدي هذا البحث يعد مهادا لازما للإطار العلمي الذي تنبثق منه بلاغة النص الجديدة.
التعليقات