الحديث عن المسجد العتيق بمدينة "سور الغزلان" بولاية البويرة 120كلم شرق العاصمة الجزائر، إحدى مدن تمركز قبائل البربر في الجزائر، حديث عن إحدى أوجه الجرائم التي ارتكبها المستعمر الفرنسي في حق الانتماء العربي والإسلامي للجزائر، ولم يجانب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الصواب ولا الحقيقة ولا الواقع عندما أشار أن فرنسا ارتكبت" مجزرة في الهوية والثقافة واللغة "طيلة 132سنة من عمر وجودها في الجزائر التي لم تغادرها إلا في العام
1962.وإن لم تعجب تصريحات الرئيس بوتفليقة قصر الاليزيه، ولا نخبة المستعمرة القديمة من السياسيين والمؤرخين والإعلاميين، فإن مسجد سور الغزلان، الذي حوله المستدمر الفرنسي إلى اسطبل لتربية الخيول وحورت اجزاء منه لتصبح مخابر لاجراء تجارب التهجين والتكاثر، أفظع شاهد على الاعتداء الذي مارسه الفرنسيون بمباركة قساوستهم وكاردينالاتهم ومبشريهم في حق حرمة المسجد نفسه، ثم أهالي القرية الذين كان المسجد بالنسبة لهم اللحمة التي كانت تجمع بينهم وتقويهم والمنبر الذي كان يشحذ هممهم وإيمانهم، ولعلها الأسباب نفسها التي جعلت المستعمر يسارع إلى تحويل المسجد إلى اسطبل، وهي جريمة أكبر من إبادة الأبرياء وحرق وتدمير القرى فوق رأس الأطفال والعجزة والنساء، التي يجب على الجزائر أن تطالب فرنسا بالاعتراف بها ثم الاعتذار عنها، قبل أي مطلب آخر يتعلق بالماضي التاريخي لفرنسا في الجزائر.
ولعل المصيبة كلها، هو بقاء المسجد الذي بناه الأتراك العام 1735خلال الوجود العثماني في الجزائر، قبل أن يحوله المستعمر الفرنسي العام 1904إلى اسطبل، بقاؤه على حاله منذ استرجاع البلد سيادته واستقلاله العام 1962، صحيح ان المسجد لم يعد يأوي الخيول ولا الحمير ولا حتى الدجاج، لكنه لم يسترجع مكانته ووظيفته كمنارة للإيمان والعلم مثلما ظل عليه لقرون خلت قبل مجيء الفرنسيين ولم يعد مسجد سور الغزلان العتيق، الذي يحتفظ إلى اليوم بمحرابه ونوافذه وشكله الخارجي، سوى مساحات يرتفع فيها الأطفال بعدما اتخذته عائلات لم تجد سقفاً يأويها مكانا للسكن.
والأسوأ في قصة المسجد، انه لا يبعد عن العاصمة حيث مصالح وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، سوى ببضع الكيلومترات، وهي الوزارة التي أعلنت في السنة الماضية عن مشروع بوتفليقة الضخم لبناء مسجد يريده الرئيس الجزائري ثالث أكبر مسجد في العالم بعد الحرمين الشريفين وتحفة معمارية لا مثيل لها بالمنطقة المغاربية، يكون مركزا للاشعاع الديني والفكري فيما لم تفلح مراسلات أهل المدينة في تحريك مسؤولي الوزارة للدفع بهم إلى إعادة الاعتبار إلى المسجد العتيق.
ولا تنفصل قصة تحويل مسجد سور الغزلان العتيق إلى اسطبل عن التاريخ السوداوي لفرنسا في الجزائر، والحقيقة ان سيل تحويل مساجد الجزائر إلى كنائس وثكنات عسكرية واسطبلات ومخافر للشرطة، بدأ في جويلية "يوليو" 1830، في نفس اليوم الذي وطأت فيه أقدام المستوطنين الفرنسيين أرض الجزائر، وتذكر كتب التاريخ كيف ان الجنرال "روفيجو" - الذي ما تزال منطقة فلاحية بمنطقة المتيجة الخصبة تحمل اسمه إلى اليوم - وقف يومها وأشار إلى مرافقيه ان يختاروا مسجدا من مساجد الجزائر ليصير كنيسة، فأشاروا عليه بجامع "كتشاوة" اجمل مساجد البلاد وأروعها من حيث هندسته وعمرانه وموقعه في قلب مدينة الجزائر القديمة، وهو الجامع الذي بني العام 1612زمن الوجود العثماني، وجدد بناؤه ووسعه حسن باشا العام 1795، ولم يشفع وجود ما يزيد على أربعة آلاف مسلم كانوا يعتصمون داخل المسجد هربا من المحتلين، ليأمر الجلاد الفرنسي بإبادتهم جميعاً، ولم تمر سوى سنتين حتى أصبح مسجد "كتشاوة" والكلمة باللغة التركية ومعناها بالعربية الهضبة كاتدرالية تعرف باسم "كاتدرالية سانت فيليب "أقيمت فيها أول صلاة نصرانية ليلة عيد الميلاد في 24ديسمبر "كانون الأول" العام 1832.وكانت خطبة سكرتير الحاكم العام لمدينة قسنطينة (شرق الجزائر) غداة تحويل "جامع حسن باي" إلى كنيسة، من أكثر خطب المصريين حقداً على الإسلام، عندما راح يؤكد قائلا: "ان آخر أيام الإسلام قد دنت، وخلال عشرين عاماً لن يكون للجزائر اله غير المسيح، ونحن إذا امكاننا ان نشك في ان هذه الأرض تملكها فرنسا، فلا يمكننا ان نشك على أي حال انها قد ضاعت من الإسلام إلى الابد، اما العرب فلن يكونوا مواطنين لفرنسا إلا إذا اصبحوا مسيحيين جميعاً"!
والحقيقة التي طالما اختفى وراءها المستعمر الفرنسي، هو ان تحويل المساجد إلى كنائيس واسطبلات كان يعكس ذلك المعركة الخفية التي كانت رحاها تدور آنذاك بين الهلال (يطلقه الفرنسيون على الإسلام) والصليب (المسيحية) وفي المعركة التي كشفت حقيقة وهي ان الوجود الاستعماري في الجزائر لم يكن سياسياً بحثاً بل دينياً مقدساً، ويكفي ان تعلم ان قائد الحملة الفرنسية على الجزائر العام 1830(دوبونياك) اصطحب معه 14شخصاً من ابرز القساوسة الفرنسيين، وان ما يزيد على 120قساً فرنسياً دخلوا الجزائر في منتصف الخمسينيات لاجل الدعوة إلى المسلم "السلم" عبر الدعوة إلى المسيح في دولة كانت الحرب الجهادية ضد المحتل تصنع أمجادها، وقبل ذلك بكثير نذكر الدور الذي لعبه الكردينال لافيجري، الأسقف رقم 1في الجزائر الذي قام نابليون الثالث بتعيينه على رأس الهيئة المسيحية في الجزائر، حيث اشتهر لافيجري بحملاته التبشيرية وسط الفقراء لمدة فاقت 15سنة كاملة، لكن خطة الكاردينال التي تخفت تحت شعار "الخبر والدواء" لم تفلح، وفشلت حتى في عز المجاعة التي المت بالجزائر العام 1866م لأن الأهالي تفطنوا ان وراء حملة الخبر والدواء والأمل في الحياة، قتل للهوية ومحاربة واداء للغة العربية.
وتشير بعض الوثائق التاريخية ان العاصمة وحدها كانت تتربع على ما يزيد على 300مسجد قبل الاحتلال الفرنسي لم يبق منها سوى 13مسجداً اغلبها هدم وحول إلى كنائيس آنذاك، ولم يمض وقت طويل على دخول فرنسا الجزائر حتى صار في البلاد 327كنيسة للنصارى، و 45معبداً لليهود في مقابل 166مسجداً للمسلمين فقط في كامل التراب الجزائري!. ولعل من اكبر المفارقات التي تقفز إلى العيان ونحن نتحدث عن المساجد التي حولها المستعمر الفرنسي الى غير مهامها الأصلية بقاء ما يقارب 138مسجدا تاريخيا في الجزائر صامدا امام محاولات طمس الهوية والمعتقد التي مارسها المستعمر طيلة 130سنة، والمفارقة الكبرى هي في وجود غالبية هذه المساجد ببلاد القبائل البربرية، هذه المنطقة التي تكالب عليها الاستعمار، ولم تأيس محاولاته يوما في تنصير اهلها وتصويرهم بالمضطهدين باللعب على الورقة العرقية والإثنية، لكن بلاد القبائل ظلت شامخة بأنفة اهلها وبعمق ارتباطها بالإسلام الذي انتشر في الشمال بفضل عقبة بن نافع.ورغم محاولات التنصير، والاستلاب الفكري واللغوي والعقيدي خرج المستعمر الفرنسي ذات عام 1962من الجزائر وهو يجر وراءه خيبته وفشله في تحويل أمة عن دينها، حيث رحل المستعمر وبقيت للجزائر مساجدها العتيقة الصامدة، وأعيد بناء اخرى حيث انتقل عدد المساجد في الجزائر من 2000مسجد مع بداية الاستقلال الى 15ألف مسجد .
التعليقات