هل نقول إن رواية "حب في السعودية" لإبراهيم بادي قدمت بانوراما عاطفية شبابية؟ هل هي رواية تريد أن ترفع سقف الجرأة في المشهد الروائي المحلي؟ رواية حب في السعودية رواية تحرض على الأسئلة. رواية قد تخاتل القارئ ويكتفي بالبعد الشكلاني العاطفي المقدم في الرواية. كل هذه التساؤلات نطرحها على الروائي والكاتب المسرحي إبراهيم بادي في هذا الحوار ل "ثقافة اليوم":
برغم مرجعيتك المسرحية في الكتابة،إلا أننا نلاحظ طغيان اللفتة السينمائية في روايتك، سواء على مستوى "التكنيك" أو حتى على مستوى المشهد. بماذا تفسر هذا الأمر؟
"مرجعيتي" المسرحية لا تتمثل فقط في عملي كمخرج أو مؤلف، فهي تشكلت بالدورات المسرحية والاشتغال على النقد المسرحي - صحافياً - خصوصاً حين كنت في بيروت. ولعل خجل الإنتاج المسرحي السعودي دفعني إلى الاشتغال على النقد التلفزيوني والسينمائي - صحافياً أيضاً، فتراكمت المقالات والقراءات على مدى عامين في هذا المجال، لتُشكل معرفة، ولو بسيطة، بالصورة المسرحية أو التلفزيونية أو السينمائية.
ومن هذه الخلفية البسيطة، يمكنني القول إن المشهد السينمائي يفلت من سطوة اللغة، والاستعارات والتشبيهات الأدبية الثقيلة، والقوالب الجاهزة، والعبارات الطويلة، والمونولوجات، والذهنية... إذ تختزل السينما الرموز، "شكلياً"، ويُستعاض ببعضها عن البعض، وهذا الذي يفرضه الصوغ السينمائي مقارنة بصوغ مشاهد مليئة بالثرثرة والتشبيهات والتكرار. بعبارات أخرى تحول الرمز، اليوم، إلى ما وراء الصورة وما وراء الحكاية، وتجاوز ما وراء العبارة أو المفردة. وربما دفعتك قناعتي، بضرورة توظيف تقنيات الصوغ "البصري" (مسرحاً أو سينما) في الرواية، إلى الشعور الذي تولد عندك. لكن على رغم كل ذلك، فإن "حب في السعودية" رواية وليست عملاً مسرحياً، أو سينمائياً، حتى لو بدت تستعير تقنيات بصرية، فكتابة الرواية فن بحد ذاته، وذلك ينطبق على كتابة المسرح والسينما، كل على حدة.
@ التكنيك الذي اتبعته في السرد يبدو صعباً على القارئ العادي. هل تعتقد بأن هذا القارئ سوف يكتفي بالمشاهد الحسية، ويغفل اللعبة السردية داخل الرواية؟
- أختلف مع القول السائد بوجود قارئ عادي وقارئ نخبوي. وبرأي مجرد: يتولد هذا الشعور - وجود عادي ونخبوي - قياساً برد الفعل على العمل الإبداعي. ومن هنا فقد يكون قارئ نخبوياً بماهية رد فعله على عمل ما، وهو نفسه قد يكون عادياً بماهية رد فعله على عمل آخر. ويمكنني هنا الاستشهاد بإحدى تقنيات كتابة السيناريو، الذي يحلو للبعض تسميتها "الكتابة المبعثرة"، والتي تبرز في أفلام المخرج الأميركي كوينتين ترانتينو. وعلى سبيل المثال قسم فيلمه KILL BILL (اقتل بيل) إلى فصول عدة، واعتمد سيناريو "مبعثراً" يتداخل فيه الزمن، ويقفز مرة يحكي عن الماضي ومرة عن المستقبل، ومرة يُسوّف، حتى تكتمل أحداث الحكايات. وكما يحدث لمُشاهد تلك الأفلام، يكتشف المتلقي تدريجاً اللعبة سواء السينمائية أو الروائية أو المسرحية، حين تكتمل الحكايات. ولا يمكنك أن تقول إن اللعبة صعبة على المشاهد "العادي". لكن يبقى هناك دائماً ما وراء الحكاية، على جميع الصعد، حتى على متلقيك "النخبوي".
@ هل نقول إن إبراهيم بادي، حاول أن يحشد كل مفاهيم الحب السعودي، لذا جاءت الرواية محتشدة بلقطات بانورامية، تحاول أن تلتقط كل الحكايات العاطفية لتتوزع على أحداث الرواية؟
- إن مفهوم البانوراما (الصورة المحيطة بغالبية الجوانب) يشبه مفهوم الكمال. ربما إذا أردت أنتَ، فاعتبرها التقطت كل الحكايات العاطفية، ولن يزعجني ذلك. لكنها برأيي حالة وإن تشعبت، فالمهم ألا تتشتت. وعلى النقيض لم أكن أحاول أن أقول كل شيء، أو أن أحكي كل الحالات، بل حاولت أن أكتب حالة ربما هي معقدة بقدر ما هي بسيطة. بكلام آخر، كانت هناك محاولة لسرد حالة "حب في السعودية"، وكل ما أثّر فيها، وخلقها، وأماتها، وليس سرد حالات "حب في السعودية" متعددة.
@ في رواية السراب لنجيب محفوظ كان بطل الرواية يعيش مأزق الاحتضان، الخوف الأمومي، وعندما كبر وعاش خارج دائرة الأم؛ وجد الفشل في علاقته مع المرأة. بطل روايتك إيهاب، عندما ابتعد عن أمه فاتنة، أصبح رجلا صاحب علاقات نسائية متعددة.. نفسيا لا يمكن أن يتشكل هذا الانطلاق مع الأنثى بعد الحصار الأمومي؟
- أنت، اعتبرتَ أن العلاقات، مع النساء الخمس، تشكّلت. ربما اعتبرُ وغيري أن العلاقات العاطفية لم تتشكل وتكتمل، من منطلق أن إيهاب لم يستمر في أي علاقة، وتزوج فتاة لم يحبها. ثم لو افترضنا أن إيهاب نجح في علاقاته النسائية، أو نجح في واحدة على الأقل، فالمهم دراسة كيفية نجاح هذه العلاقة، مع الأخذ في الاعتبار أن مفهوم "نجاح العلاقة بين الرجل والمرأة" نسبي، منذ بداية الخلق. ثم إلى أي مدىً يمكننا الجزم بأن مرور ابنٍ (ايهاب) بمأزق في علاقته بأمه (فاتنة)، قد يتسبب في تأزم علاقته بالمرأة، حتى لو بدت الرواية تقول ذلك، للبعض؟
@ إيهاب وتلصصه الدائم على ما ورائيات فاطمة، والتي وصلت إلى حد الهوس والتلذذ بما تخفيه عنه... هل نقول إن هذا التلصص المرضي يجعله عاشقا مأزوما نفسياً على مستوى العاطفة؟
- لا أعرف. ربما أطرح هذا السؤال عليك وعلى القارئ، فأنا أبحث مثلك ومثل القراء عن أجوبة لأسئلة كثيرة عن شخصية إيهاب. وربما تجدني مشغولاً، بل مهتماً بقراءة رد فعل شتى أطياف القراء، المتمثل في أسئلتهم وأجوبتهم وأطروحاتهم بشأن إيهاب والراوي وكل الشخصيات.
@ في الرواية نجد مثل العبارة التالية: "إنها تتظاهر بالتمنع، تريدني أن أبادر دائماً، وألعب دور المقنع وصاحب الفكرة"... مثل هذه العبارات التي تتولى فضح تفكير الأنثى العاطفي، وتعمق الارتباك الأنثوي في مسألة التعاطي مع الحب بمفاهيم مرتبكة. هل نقول إن الرواية تفضح الخطاب العاطفي في المجتمع؟
"يفضح"، "يُعري"، "يكشف"، "يبحث"... أفعال كثيرة، تتقاطع مع هذه الأفعال، يُمكن إلصاقها بكل عمل "إبداعي": رواية، قصة، مسرح، شعر، سينما... حتى الصحافة "تفضح". لكن، في أي سياق يُستخدم هذا الفعل؟ ومن يستطيع التفريق بين "الفضح" الإبداعي، و"فضح" لا إبداعي: "مؤدلج" أو "مسيس" أو "غير واعٍ" بأدوات الإبداع حتى. هذا الحوار ليس معرض تنظير، بقدر ما هو محاولة في الاستمرار بطرح الأسئلة، تماماً كما يفعل أي عملٍ إبداعي. ومن هذا الإطار، فالذي "يفضح" هو القارئ، في كيفية تعاطيه مع السرد، وليس الكاتب. وهنا أقول: أنتَ "فضحت تفكير الأنثى العاطفي، وتعمق الارتباك الأنثوي في مسألة التعاطي مع الحب بمفاهيم مرتبكة"، بكيفية تعاطيك مع الرواية، ولستُ أنا من "فضح"، وربما لم أقصد ما أنت "فضحته". وهناك من سيقرأ كما قلتَ مشاهد حسية، ولن ينتبه إلى أي بعد نفسي أو عمق اجتماعي.
@ إيهاب بطل الرواية من إكسسوارات شخصيته،انه دوماً يرتدي البنطلون. هوية الزي الذي يرتدي، تكشف أنه متعلق بثقافة الأم.. و هي الأكثر استيطاناً في داخله. كذلك مرجعية فاطمة تتشابه مع إيهاب. والحالتان تتقاطعان مع شخوص "البحريات" في رواية أميمة الخميس، والتي قدمت نماذج لشخصيات تتنازعهم ثقافتان. هل ترى أن الرواية، قدمت تمثيلاً لتلك النماذج أصحاب الثقافة المزدوجة؟
أنت ترى ذلك، كقارئ. ونحن نعود هنا إلى القارئ مجدداً. فكما ربطت بين إيهاب وبطل "السراب"، تربط الآن بين شخوص "رجل وخمس نساء" (حب في السعودية)، وشخوص "البحريات". وسيأتي قارئ لم يقرأ رواية في حياته، فيربط الشخوص بشخوص واقعية أو بشخصيات ظهرت في أفلام شاهدها. أو ينفيها من الواقع تماماً ويعتبر إمكان وجودها خيالا، ومحالا. إذاً الأمر كله، الآن، متعلق بثقافة القارئ، بعد خروجه من ثقافة الكاتب.
@ شخصية ال "جيغولومان"، هو استثمار لفضاء الانترنت... ألا تجد أن كل الروايات المحلية التي لامست الواقع الافتراضي لامسته في شكل سطحي. وظلت المسألة تتعلق بالاتكاء فقط على اللمحة العاطفية، من دون توغل حقيقي في ملابسات هذا الواقع الافتراضي، الذي لا يعني لمحات عاطفية فقط؟
- بناء شخصية "الجيغولومان"، أو الرجل المومس، استثمر الإنترنت في الإعلان عن هذا "المنتج"، لكن باستغلال "اللمحة العاطفية" أيضاً، إذ أن الإعلان جاء في غرف الدردشة، التي يبحث فيها كثيرون عن "عاطفة" مفقودة أو مجهولة. ما يعني أنه لم يخرج كثيراً عن الدائرة التي تحدثت عنها. وعودة إلى عالم "الإنترنت"، الذي يكفي لشغل بحر من الروايات، فهو عالم آخر في حد ذاته. أتفق معك على أن ملامسته في الروايات المحلية اقتصرت على العاطفة، وهذا برأيي ناتج من أن التصور المسبق عندنا عن عالم الإنترنت هو: "دردشة بين جنسين، وعلاقات عاطفية تبدأ بالصداقة وتصل إلى الحميمية". والمشكلة برأيي أن الراوي المحلي فرد من المجتمع وليس فرداً من "العولمة"، في ما يتعلق بالإنترنت تحديداً. وهنا أسأل: قبل عام 2000، كم مؤلفاً سعودياً كان يملك موقعاً على الإنترنت؟! لا أحد. وحتى بحلول عام 2007، وعلى رغم أن هناك 42رواية صادرة في 2006، فكم مؤلفاً من هؤلاء يملك موقعاً على الإنترنت، رغم أن المدونات السعودية غزت الشبكة، وهناك كثر من الشبان والفتيات الذين يملكون مدونات في هذا العالم الافتراضي. وبرأي مجرد: المشكلة هي كيفية تعاطي أفراد المجتمع والروائيين المحليين، مع الإنترنت، تماماً كما أن هناك مشكلة في كيفية التعاطي مع السرد ذاته في مجتمعنا السعودي.
@ شخصية "علوة" قُدمت في دور "الصديقة". على المستوى المحلي هذه المفردة تبدو طارئة في أجندة العلاقات بين الجنسين،. صياغة هذا النموذج الذي له ملابساته المتعددة في الرواية، كيف تنظر إليه؟ وكيف يتم التعبير عنه بكل الارتباك الذي يؤسس لوجوده اجتماعياً؟
- لو سألني قارئ هذين السؤالين: كيف أنظر إلى صياغة نموذج علوة؟ وكيف أعبر عنه؟ سأجيب عليه ببساطة: "اقرأ الرواية، وستعرف كيف صغته أنا، وكيف عبرت عنه". ولعل الارتباك الأهم برأيي، افتراضياً، ليس الارتباك الذي أسس لوجود مفردة الصديقة أو غيابها في المجتمع، بل الارتباك الذي يتولد من التعاطي مع حكاية الصديقة ووجودها في الرواية. فهناك من سيرفض العلاقة ويعتبرها ليست موجودة، لأنها ليست موجودة في ذهنه. وهناك من سيعتبرها "طارئة، على المستوى المحلي، في أجندة العلاقات بين الجنسين"، مثلك. وهناك من لن ينزعج بمقارنتها بالواقع ليتعاطى معها كشخصية في عمل إبداعي، باحثاً عن مسببات خلقها في الرواية.
@ الجزء الأخير في الرواية كان ممتلئاً بالتكرار. لم يكن فيه إضافة حقيقية للرواية. هل تزعجك هذه الملاحظة وكيف تبرر هذا التكرار؟
- لا تزعجني أبداً. فالملاحظات هي ما نبحث عنه. حضور التكرار، أحياناً، يكون مبرراً ومقصوداً. وأحياناً لا يكون تكراراً في الأصل. فما يبدو لك تكراراً قد لا يبدو كذلك لغيرك، وستجد من يبرر لك. ومجرد صدور الكتاب دليل على اقتناعي به، قبل وقت الصدور. وهنا تجدر الإشارة إلى التاريخ الذي يذيله الكاتب في روايته أو في عمله الإبداعي. فكل كاتب يتطور على المستويات الذهنية والشخصية والنفسية وحتى الجسدية طبعاً. لن أقول إن هذه "رواية أولى"، وتحتمل "الهنّات" هنا أو هناك، فلم أعمل عليها منذ ثلاث سنوات، كي تكون مجرد "رواية أولى"، بل لتكون عملاً إبداعياً يُقنعني، إلى حد ما، حتى اللحظة التي تسبق الإصدار. ولا تنسى أن شخصية الراوي كانت تحاول تصوير حالة الكاتب، وحالة الهذيان الذي لا يتوقف، حتى بعد استلام "دار الآداب" للمخطوطة.
@ "هذه الرواية من نسج الخيال، حتى لو وجدت شخوص واقعية شبهاً بينها وبين شخوص الرواية، فهو محض صدفة"... الخ. ألا تجد أن مثل هذه العبارة أصبحت تقليداً بليداً. لا أحد يهتم بها، وكذلك الكاتب ليس مطالباً بكتابتها في روايته؟
- يتم اللجوء إلى هذا النص، عادة، في حال تماسه مع أحداث واقعية عامة، أو تاريخية، أو شخصية... ويعد بالنسبة إلى بعض دور النشر وبعض الكتاب غطاءً قانونياً. أتفق، إلى حد ما، معك أنه تقليد بليد، وأن الكاتب ليس مطالبا بكتابة هذه العبارة في روايته. وربما دلل هذا التقليد إلى مشكلة في تعاطي الكاتب، نفسه، مع العمل الإبداعي، تشبه تلك المشكلة التي يقع فيها المجتمع. فكلمة "رواية" على الغلاف، تكفي لتكون غطاءً قانونياً، لو احتاج إليه، حتى. لكن، لا تنسى أن ما قد يدفع الراوي السعودي، تحديداً، إلى كتابة هذه العبارة، هو كثرة الحديث عما إذا كانت الرواية سيرة ذاتية أم لا، أي أن المجتمع يفرض عليك ذلك، إلى حد ما. لكن سأتجاهلها في الرواية الثانية.
@ بعد أن انتهيت من قراءة الرواية وجدت اللا حب، في رواية عنوانها "حب في سعودية". هذا الإحساس ناتج عن أن العلاقات العاطفية في الرواية هي علاقات مأزومة، فيها الكثير من الاحتيال العاطفي. هل كانت الرواية تريد أن تقول لنا إن المعطيات التي تعيشها لا يمكن أن تنتج حالات عاطفية صحية؟
- برأي مجرد: "حب في السعودية لا تقول ولا تريد أن تقول. هي كلمات تُقرأ. القارئ يقول ماذا يقرأ". وللتأكيد على ذلك، ف "الحُب" يا طامي "نسبي" مثل كل شيء. هل تقدر أنت أو قارئ هذا الحوار على تعريف "الحب"؟ وهل يُوقن أن هذا هو التعريف الوحيد للحب؟ هذا الكلام ليس "فلسفة" بل مجرد رأي.
التعليقات