تُعدُّ الضيافة من أهم القيم التي يُعبّر بها العرب عن الكرم. ولهذا نجد أن كلمتي "الكرم" و"الضيف" من الكلمات التي ترد بشكل متلازم في كثير من المقولات والتعبيرات الشائعة في الثقافة العربية. وقد حفل التراث الشعري - بجانبيه الشعبي والنخبوي - بأبيات شعرية كثيرة تمجد الكرم وتحتفي بقيم الضيافة، وفي المقابل فهناك هجاء لكل ما يتعارض مع قيم الكرم من سلوك سلبي كالبخل واللؤم والدناءة.
ونظراً لأهمية قيمة الكرم بوصفها مبدأ أخلاقياً رفيعاً فإن الثقافة تعزز باستمرار القيم العليا وفي الوقت نفسه تحاصر ما يتعارض معها من قيم تعتقد أنها مضادة. ولهذا يمكن تفسير وصم الشخصيات التي لا تحمل قيم الكرم بسمات سلبية تجعلها خارج دائرة الفخر. فالشخص يمكن أن يوصف بأنه "لئيم" أو "عفن" أو "رديء" إذا لم يتصرف وفق قيم الجماعة في الكرم. ويعتبر شخصاً منبوذاً عند جماعته، وربما يعاقب بعدم تزويجه أو رفض تزويج أبنائه أو عدم خطبة بناته. وذلك من خلال إشاعة فكرة متداولة بين الناس وهي أن الأخلاق النبيلة وغير النبيلة هي في الحقيقة أخلاق موروثة أكثر من كونها مكتسبة.
ومن هنا فقد حظي الكرم باهتمام كبير عند الناس بوصفه ممثلاً لشخصية الفرد ودالاً على قيم المجموعة (القبيلة أو القرية) التي ينتمي إليها الفرد. ويتخذ إكرام الضيف في السعودية منهجاً صارماً، ذلك أنه يتوجب على الشخص الاحتفاء بالضيف بالكلام وبالفعل بما في ذك تقديم وجبة في الغالب تكون "ذبيحة" حتى لو كانت ظروف المضيف المالية لا تسمح بذلك. والحقيقة أن إكرام الضيف يعد عند كثير من القبائل واجباً أخلاقياً لا مناص منه، ويعبر عنه بكلمات من مثل "واجب" أو "موجوب" أو "حق" أو غيرها من الكلمات التي تشير إلى حق الضيف.
ويتطلب الاحتفاء بالضيف القيام بعدة إجراءات هي جزء من مراسيم تكريم الضيف. وهذه الإجراءات هي بمثابة قوانين أخلاقية يختلف الاهتمام بها أو التركيز على بعضها أو ترتيبها من قبيلة إلى أخرى ومن منطقة إلى منطقة. ومن ضمن مراسم الاحتفاء بالضيف الترحيب به عند قدومه، وتكرار التحية، والحديث معه بلباقة، ومحاولة إشغاله بالكلام والترويح عن خاطره، ثم دعوته لتناول الطعام وهو ما يعرف ب "التقليط"، وما يتبع ذلك من دعاء للضيف بالكرم بعد أن "ينهض" المدعوون من الجلوس على الوجبة.
وفي السابق كانت مراسم "التقليط" ومراسم "النهوض من الأكل" تتخذ أساليب صارمة بما في ذلك الاهتمام بالصيغ اللغوية المستخدمة. إذ يبدأ "التقليط" بوقوف صاحب المنزل أو من ينيبه من كبار السن كوالده أو أخيه أو عمه ممن يحسن الكلام. فيتقدم ويطلب من الحضور بصوت مسموع أن يتفضلوا لتناول الطعام مرفقاً ذلك بعبارات التحية والترحيب. وكلما كانت العبارات بلاغية ومتتابعة كانت أقوى أثراً وأدل على الحفاوة ويتقدم الناس ابتداءً بالضيف أو بكبير السن أو بمن يكون على اليمين، حتى إذا اكتملوا على المائدة سكتوا ينتظرون المضيف أن يعلن عن بدء تناول الطعام بعد التعريف بالمناسبة. ويبدأ المضيف بالترحيب بالجميع ثم يخص الضيف ويمدحه ويعبر عن سعادته وسعادة أهل بيته وأسرته بهذه المناسبة، ثم يطلب من الجميع أن يمدوا أيديهم إلى الطعام ويسموا بالله. ويظل واقفاً هو وأولاده أو إخوته حول الضيوف ويقدم لهم الماء ويحثهم على الأكل، ويستمر في الترحيب بهم بلغة صادقة وروح مبتهجة.
ومن أبرز العبارات السائدة في الترحيب بالضيوف قولهم: "يا هلا بكم من ممشاكم إلى ملفاكم"، و"حياكم الله وحيّا من حضر، حياكم عداد الشجر والحجر"، و"أسفرت وأنورت، واستهلت وأمطرت"، و"بالسنة عيدين وهذا الثالث"، و"يا هلا ويا غلا عداد ما بين الأرض والسما". وفي بعض المناطق الجنوبية يقال: "مرحباً هيل، عداد السيل"، و"مرحباً ألف"، وغير ذلك من العبارات التي يتفنن كل مضيف بتقديم الكثير منها منتقياً العبارات اللبقة التي تشعر الضيف بأهميته وتبين له أن حضوره هبة من الله.
ونظراً لقلة الزاد في السابق، فإن الضيوف يعرفون هذا الأمر ويقدرونه فيكفون أيديهم حتى لو لم يشبعوا لكي يعطوا الفرصة لمن يأتي بعدهم فيجد ما يأكله. ويعاب على الشخص أن يكون نهماً في أكله أو يبدأ قبل بداية الناس أو يستمر بعد أن يكف الضيف يده. وبمثل ما كان "التقليط" خاضعاً لمراسيم معينة، فإن "النهوض" من الطعام كذلك يخضع لمراسيم محددة، أهمها أن أول من ينهي الأكل هو الضيف أو أحد كبار السن إن لم يكن هناك ضيف محدد، وذلك من خلال إعلانه بصوت مسموع عن ترك الطعام ويستخدم لذلك أدعية من مثل: "أكرمك الله" أو "زادك الله من فضله"، أو "أغناك الله"، وغيرها من العبارات التي يتتابع على قولها كل المدعوين ويكررونها، ويستحسن دائماً رفع الصوت عند النطق بها، ولهذا يحرص كل فرد على إسماعها للجميع.
ويلاحظ في الآونة الأخيرة أن هذه المراسيم بدأت تختفي تدريجياً من تقاليد بعض الناس وخاصة عند سكان المدن الذين راحوا يتباسطون في الأمر. وهذا التباسط الذي فرضته الحياة في المدينة يبدأ من طريقة الدعوة وعدم الإصرار عليها (وذلك من باب احترام أذواق الناس)، وما يتبع ذلك من عبارات الترحيب التي صارت مختصرة بكلمة "تفضلوا" أو "سمّوا" (وذلك من باب إعطاء كل شخص الحرية في الأكل أو خدمة نفسه بما يناسب احتياجه الفردي)، كما اختصرت عبارات الدعاء للضيف بعد انتهاء الطعام في كلمة "أكرمكم الله" وقد يضاف إليها عبارة "ما قصرت" أو "شكراً" أو ما يشابهها دون أن تخضع تلك العبارات لقوالب لغوية وبلاغية ذات إيقاع مؤثر.
ولا بد من الإشارة إلى أن هناك من لا يزال يحافظ على تلك المراسم ويتقيد بها دون أن يتخلى عن أ ي عنصر فيها. ولكن الملاحظ أن التقيد بمراسيم الضيافة بدأ يتضاءل تدريجياً مع الزمن عن الأفراد، ويمكن القول بناءً على الملاحظة الذاتية أنه إن كانت نسبة الاهتمام بمراسيم الضيافة تتحقق عند جيل الآباء بمستوى مرتفع، فإن نسبة الاهتمام هي أقل عند جيل الأبناء.
جدير بالذكر أن هذه التغيرات في مراسيم الضيافة تمثل مرحلة ثقافية بين الجيل السابق وبين الجيل الحديث، وسيعقبها مرحلة الضيافة في المطاعم والمقاهي وستختفي تبعاً لذلك كثير من الإجراءات المتبعة في المنزل. وإذا كان الجيل السابق يشعر بالارتباك في التكيّف مع هذه المرحلة ويعتبرها تتضمن نوعاً من اختلال القيم فإن الجيل الحالي يجد فيها مساحة أكبر من الحرية للتخلص من الالتزامات الاجتماعية المرهقة والتي لا تعبر بالضرورة عن رغبة الفرد الحقيقية.


1
Musa al-Mubarak
2007-01-06 23:42:59شكرا وهذه قيم تمثل مرحلة ثقافية بين الجيل السابق وبين الجيل الحديث، وسيعقبها مرحلة الضيافة في المطاعم والمقاهي وستختفي تبعاً لذلك كثير من الإجراءات المتبعة في المنزل. وإذا كان الجيل السابق يشعر بالارتباك في التكيّف مع هذه المرحلة ويعتبرها تتضمن نوعاً من اختلال القيم فإن الجيل الحالي يجد فيها مساحة أكبر من الحرية للتخلص من الالتزامات الاجتماعية المرهقة والتي لا تعبر بالضرورة عن رغبة الفرد الحقيقية.
2
أبو سليمان
2007-01-06 13:45:38شكرا جزيلا
وهذه قيم قد لاينتبه الناس الى تغيرها مع الاجيال لكن من يدقق النظر وينظر هنا وهناك سيكتشف فعلا وجودها.
شكرا سيدي لملاحظاتك ولقلمك الجميل
3
أم سامي
2007-01-04 12:32:03شكرا لك عزيزي الكاتب على المقالة
والحقيقة ان الكرم لم تتغير قيمته ولا الاهتمام به عند الناس بصورة درامية ولكن المتغير هو في الحقيقة مجرد وسائل تقديم الكرم عند الناس
ومنها ماتفضلت بذكره من مراسيم التقديم او النهوض من الطعام
لك شكري وتقديري
4
عبدالمجيد العلي
2007-01-02 16:25:48مقالة ممتعة وجميلة ومفيدة وتتضمن تحليلا دقيقا للقيم الثقافية ومنها الكرم
واتفق معك في وجود تغيرات كثيرة طرأت على حياتنا وعلى سلوكنا وقيمنا ومنها مايتعلق بالكرم
والسبب يعود الى تداخل الثقافات والعولمة والتغيرات التي جاءت الى مجتمعنا من الدول الاخرى.
وهذه اشياء مهمة غيرت في ثقافة الكرم عندنا.
5
المها بنت محمد
2007-01-02 12:20:29تحياتي للاستاذ ناصر الحجيلان
اشياء كثيره تغيرت في عادات الكرم فهي تختلف من جيل لجيل
فالآن هناك اتكيت يمارس بدقه وخاصه في الحفلات او (العزايم) النسائيه واي خطأ يحدث في ادق تفاصيل هذا الاتكيت يعتبر نقص في صاحبه الحفل او ( العزيمه)وهناك من النساء من تبالغ باتباع ادق قواعد الاتكيت او بوتوكول الحفلات لدرجه وجود معاهد تقوم بتعليم وتدريس انواع من الاتكيت : اتكيت دوبلوماسي اتكيت حفلات 00000 الخ ولكن اعتقد ان البساطه هي الاجمل دائما وان كنت انا شخصيا لا اطبق هذة المقوله ابدا ليس عدم ايمان بها بقدر ما هو حرص على الافضل دائما
رغم ما يكلفني ذلك من الجهد الشاق لكن مثل ما يقولون
(ابو طبيع ما يترك طبعه) تحياتي للاستاذ ناصر مع الشكر الجزيل على الموضوع
6
وصل الحربي-المدينة المنورة
2007-01-02 08:51:13..الكرم اليوم والضيافة وجاهة وعبءمفروض اجتماعيا وبعد عن التعليق والسخرية بالمضيف وليس حسا أخلاقيا او واجبا تمليه الثقافة الاجتماعيةالذاتية للشخص وانما هو من باب التقليد الاجتماعي الذي يفرضه العرف القبلي تحديدا وللعلم في الجانب السعودي غير القبلي يندر وجود الضيافة القبلية كثرة ونوعا وكيفية بل وينعدم أحيانا..(( التقاليد الاجتماعية في زوال بالتمدن ونشوء الجيل الانترنتي والبلاي ستيشن وللعلم الموروث الشعبي تتحدد قوته في البادية وسكانها لانهم الابعد عن مؤثرات التغيير والاقوى تمسكابه جيلا بعد جيل.. لذلك الضيافة التي ترهق المضيف معنويا وماديا ليست ضيافة وانما عبء اجتماعي فرضته القبيلة قديما واستمر الى اليوم كماهو بالطريقة الا انه سيقل مع مرور الزمن وتغييرات التمدن وعدم الاصرار الكبير عليه من الجيل القديم للجيل الحالي..