غالباً ما تبدأ أي قصيدة شاعر جاهلي بالوقوف على الأطلال، وهي ما تبقى من ديار المحبوبة، عبر استفهام استنكاري، إذ يسأل الشاعر عن بقايا الذكريات، وهو يعرف الجواب! لكن ما يتجاوز ذلك حتى يُبحر في غرض القصيدة الأساسي ويتجاوز محبوبته التي بكى على أطلال ديارها!
أقف اليوم على مواقع سبق زرتها بداية العشرينات من عمري، وخضت فيها تجارب مثيرة وقصصاً لا تنسى، خصوصاً أنها كانت في دولة غربية ذات ثقافة مختلفة وعادات لم أكن أعرفها، طبعت في ذاكرتي أحداثاً ومواقف، أكسبتني معارف ومهارات، وألهمتني نظرات مختلفة للحياة، لم أكن أستطيع الظفر بها لولا تلكم التجربة. وقفت عليها وقد تغيّرت نظرتي للحياة، أنظر لها بمنظور مختلف، لا أعرف لماذا! أهو اختلاف الزمن أم اختلافنا نحن!
هذه المشاعر بعثت ذكريات متعددة استحضرت فيها صوراً متنوعة من الماضي، لا أعرف مصدرها؟ لكنها مشاعر متناقضة، فيها خليطٌ من حزن وفرح، نوبات من العاطفة المتقلبة، كلها تشترك في الحنين نحو الماضي، كما لو كان كله جميلاً، بينما ماضينا -جميعاً- غير ذلك! لكننا دوماً ما نجنح أن ننتقي من الماضي ما يسعدنا اليوم!
هذا لا يعني أن الماضي قضى دون أن يُحدث أثاراً متواصلة في حياتنا، بل بالعكس الماضي بكافة قصصه هو أساس سعادتنا أو بؤسنا اليوم، إذ أنك أنت من يقود يومه، الذي يتحول إلى ماضيك، ثم ذكرياتك أنت، فما هي إلا انعكاس لما أنت، ولما تفكر وما تتفاعل معه.
ذكرياتنا تأخذنا إلى عوالم انطفأت بتقدم العمر، إلى ذكريات الطفولة والمراهقة، إلى لحظات البراءة والدهشة، إلى حلمٍ وبصمة، لا يزال صداها يتردد بين أمكنة غادرناها، وحينما يغفو العقل نحاول استرجاع الومضات، حتى نقتنص لحظات من السعادة الخاطفة، ونتجاوز لحظات البؤس والألم.
أشفق كثيراً على من يحنّ فقط للذكريات! ويتوقف عن الحلم والأمل، وكأنما عِقم المستقبل عن لحظات سعيدة كما عهدها في الماضي، ويتجاهل أننا نحن من يصنع الأحداث، ونحن من ينظر لها.
لا ترهق نفسك عزيزي بالعودة إلى الماضي، فقد مضى بقضّه وقضضيه، ولن يعود، لقد انتهى بكل كبواته وهفواته، وحتى إخفاقاته ونجاحاته، فهو مجرد زمن مضى ولن يعود، ليس لنا اليوم سوى أن نستحضر لحظاته لمجرد قتل الوقت.
ما أجمل الذكريات يا صديقي، ولا أروع من استحضارها لحظاتها الجميلة، لكن الأروع ألا تتوقف عن خلق ذكريات اليوم، تحسباً لتأملات المستقبل.
التعليقات