في زمن طفولتنا كان هناك قلة قليلة ممن يلفت الأنظار في كل حي أو حارة وكنا كأطفال نلاحقهم ونحاول استفزازهم بمناداتهم بألقاب نخترعها فنقول لمن نكث شعره (يا بو شاعورة) ولمن لم يستحم منذ أشهر (يا عايد جتك الصابونة) ونستمتع بردود أفعالهم وتصرفاتهم الغريبة، ولم نكن كصغار ندرك أنه لا ذنب لهم وأنهم مجرد مرضى نفسيين، أو كما كنا نسميهم مجانين، وكان أباؤنا وأمهاتنا ينهوننا عن استفزازهم أو إيذاء مشاعرهم مرددين (احمدوا ربكم على العقل والعافية).

طبيعي جدا أن يلفت الأنظار كل من قام بفعل غريب شاذ وإن خلع ملابسه أو تجرد من بعضها لفت الأنظار أكثر ولاحقه الناس، وأن يمر مرور الكرام كل كريم عاقل فلا ينتبه له أحد، ولكن ما بال أناس استخفت عقولهم فأصبحوا يتصرفون بلا رزانة وكنا نظنهم (تكانة) ويتحركون بلا وقار وكنا نقيم لهم اعتبارا، ومن يصور نفسه وهو مخمور وكان قبل ذلك مستورا، ومن تصور جسدها وتتوهم أنه فاتن مثير وهو في أعين العقلاء تافه حقير؟! كل هذه التصرفات تحدث في محاولة للفت الأنظار والشهرة والانشهار متجاهلين أن مريضا نفسيا آخرا كان يشتهر بلا جوال ولا مواقع تواصل اجتماعي، وكانت أسرته تدعو له ليل نهار بالشفاء العاجل والعودة لسلوك العقل والمراجل.

إن ما يحدث في بعض المجتمعات العربية (على غير العادة) يمثل متلازمة مرضية اجتماعية تستحق الدراسة المستفيضة من قبل علماء النفس والاجتماع المتخصصين وليس أطباء نفسيين لأن المشكلة ليست ذات مصدر مرضي عضوي أو ذهني يحتاج لعلاج دوائي، بل أساسها سلوك نفسي طارئ يقف خلفه عدة عوامل نفسية واجتماعية معقدة جدا، منها حب المال بأي طريقة، ولو على حساب الأخلاق والاحترام، وحب الشهرة وحب التقليد وإشباع رغبة تعويض شعور بالنقص وحب لفت الأنظار، وهذه المتلازمة النفسية الاجتماعية يفترض أن يهب لدراستها أساتذة علم النفس وعلم الاجتماع في الجامعات وليس الأطباء النفسيين، بدليل أن بعض أطباء النفس أصيبوا بذات المتلازمة فأصبحوا ينهجون منهج (خالف تعرف) للفت الأنظار.

تصل هذه المتلازمة المرضية النفسية الاجتماعية أوج شدتها وخطورتها، عندما يحقق المريض الشهرة ويكسب منها المال عبر الإعلانات ثم يحقق الثراء فيرى أنه يجب أن يسير وأمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله حراسة (بودي قارد) بمواصفات خاصة فيدرالية (أسمر طويل متين عريض المنكبين أصلع وبنظارة سوداء) وهنا وصل مرحلة تستوجب تدخلا رسميا رادعا فعلاجه هو آخر العلاج (الكي) لأنه دخل في حكم التشوه البصري!!.