الانقياد لله تعالى بالإخلاصِ هو روح العملِ الصالحِ، وتتجلَّى فيه العبوديةُ التي هي أسمى ما يمكن أن يتصفَ به العبد، وهذا الانقياد مُتَجسِّدٌ في إقبالِ المسلم على وظائفِ شهر رمضانَ، وانتهازِ فرصته للجِدِّ فيما يُرضِي ربَّه..

الله تعالى أحكم وأعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من الأم بولدها، ومن رحمته بعباده أن منحهم مواسم خاصة يفتح لهم فيها من فرص الزلفى إليه ما لا يفتح في غيرها، ويُعطيهم فيها الأجر العظيم على العمل اليسير، ولو كان العام كله على مستوى واحد في فقدِ هذه الخصوصيات لفات العبادَ أجرٌ عظيم، وانقطعت السُّبُل بضَعَفَةِ السائرين إلى الله تعالى، كما أنه لو كان العام كلُّه على مستوى المواسم من الأهمية لدَبَّ الملل في كثير من النفوس واستولت عليها السآمة، فمن حكمة الحكيم أن جعل مواسم العبادات واحةً غَنَّاءَ تَتَلَهَّفُ النفوس إليها وتَتَعَطَّشُ إلى وُرودها طولَ العام، بحيث تعدُّ الأيامَ كلما أحَسَّتْ باقترابها مُسْتَبْطِئَةً خطواتِ الزمن، وتهبُّ عليها نسَماتُ السرورِ والانشراحِ إذا أطلَّت عليها بوجهِها، ويكونُ من دواعي الأسى المضاعَفِ أن ينكشفَ الغيب عن أنَّ أحدَ الأحبَّةِ قد انقضى أجله قبل أن يلحقَها، وتَتَراكمُ فيها ذِكرياتُ من رحَل منَ الآباءِ والأمهات، وكيف يستثمرونها بأنواع الخير والبرِّ، وإذا كان الأمرُ هكذا فجديرٌ بمن منحه الله تعالى فرصةَ إدراكِها أن يغتنمها حسبَ الطاقة، ولي في اغتنام فرصة رمضانَ المباركِ وقفات:

الأولى: مأدُبَةُ موسمِ رمضانَ عامَّةٌ، وكلنا مدعُوّون إليها، وأبواب الفوز مفتوحة لكل باغي خير في هذه الأيام، ولا استثناء في هذا العموم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ قَالَ: (إذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ)، أخرجه الترمذيُّ وغيرُه، وإذا كان المسلم من المسرفين على أنفسهم المقصِّرين في الإقبال على العبادة، فلا يسوغ له أن يتخيَّلَ أن تقصيرَه سيكون عائقاً عن الانضمام إلى زمرة المدْعُوّين الذين نُودِي بهم أن أقبلوا، بل هذه فرصتُه، ومن الخطأ الفادحِ أن ينكمشَ المذنِبُ عن انتهازِ فُرَصِ مواسم الخير استعظاماً لذنبه، ويتخيلَ أن رمضانَ فرصةٌ للجادين الأتقياء وحدهم، وما هو إن فعل ذلك إلا كمريض يتخيَّلُ أن المستشفياتِ حكرٌ على الأصِحَّاءِ، وأن مرضَه يجعله غيرَ مؤهَّل للاستفادة منها، فمن كان له مثل هذا الهاجس فلْيتغلَّبْ عليه، وليتأكدْ أنه كالعطشانِ الذي هو أحقُّ من وردَ المناهلَ الزاخرةَ، وأن رمضانَ شهر الرحمة، وقد نهى الله تعالى المذنبَ عن القنوطِ من رحمته، فقال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

الثانية: الانقياد لله تعالى بالإخلاصِ هو روح العملِ الصالحِ، وتتجلَّى فيه العبوديةُ التي هي أسمى ما يمكن أن يتصفَ به العبد، وهذا الانقياد مُتَجسِّدٌ في إقبالِ المسلم على وظائفِ شهر رمضانَ، وانتهازِ فرصته للجِدِّ فيما يُرضِي ربَّه؛ لأن من أحسنَ استقبالَ هذا الشهر وعمِل فيه كما ينبغي، فقد انقادَ لقضاءِ اللهِ تعالى النافذِ باختيارِ هذا الشهر على غيره، وتخصيصِه بمزاياه الخاصةِ به من تنزيل القرآن الكريم فيه، وتَضَمُّنِه ليلةً هي خير من ألف شهر، كما انقادَ لأمر اللهِ المتعلِّق بفرض صوم رمضانَ، والندبِ لقيامه والإنفاقِ فيه، وسائرِ ما له به اختصاص معينٌ، ومن اجتهدَ في مواسم العبادات التي شرعها الله تعالى، وخصَّها بما اختصت به، ولم يتكلف مثلَ ذلك لغيرها من مواسم الطاعات المبتدعةِ، فقد انقادَ لله تعالى، وفوَّض إليه الأمرَ، وأقرَّ بلسان حاله بأنه ليس من حق الإنسان الاستبدادُ بتخصيصِ زمن معين أو مكان معينٍ بعبادة لم تُشرع فيه، وأن تشريعَ العبادات في زمن معينٍ أو مكان معينٍ من الاختيار الخاص بالله تعالى كما قال: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

الثالثة: الشريعةُ المحمدِيَّةُ شريعة خالدة عامَّة، وقد وازنت بين مصالحِ المعاد والمعاشِ، ولم تجعل بينهما تعارضاً يجعلُ العبدَ في مفترَقِ الطُّرق، إما أن يتَّجِهَ إلى هذه أو إلى تلك، بل جعلت السعيَ في المعاشِ بطريقه الصحيح عبادةً، وجعلت مزاولةَ الأعمال التي يُحتاج إليها في حياة الناس من فروض الكفاية، فيثاب عليها من اشتغل بها ناوياً نفعَ الأمة، فهذا الشهر العظيمُ لا يتعارض الاجتهادُ فيه مع عملِ الإنسانِ فيما به قوامُ معيشتِه، فعلى كل ذي عمل في وظيفةٍ حكوميةٍ أو خاصةٍ، أو في تجارةٍ له أو حرفةٍ أن يحتسبَ الأجرَ في إتقانِ عمله، وأن ينويَ أنه ينفع به العبادَ والبلادَ، وأنه يكسِب به الحلالَ الذي يغنيه عن الحرام، وأن لا يُقصِّر فيه؛ لأن التقصيرَ فيه ظلمٌ للمستفيدين، والظلم مما يُخِلُّ بثواب الصوم ويُفرِّغه من مضمونِه الأسمى.