تبرير الخطأ شرعنةٌ له، ووقوفٌ بجانب المخطئ على حساب الصواب، ومحاولةٌ لقلب الحقائق، ومساسٌ بالثوابت والقيم المنظمةِ لحياة الناس، الضامنةِ لتعايش المجتمع، ومن يُضحِّي بها لدعم المخطئ لو أدركَ سوءَ أثرِ صنيعه لكفَّ عن ذلك..
أمدَّ الله تعالى الناس بالعقل الذي يُميِّزون به بين الصواب والخطأ، وشرع لهم بواسطة الوحي الـمنزل من عنده كلَّ ما إن أخذوا به أصابوا الصواب، فالصوابُ واضحٌ لا لبس فيه، تهدي إليه الشريعةُ، وتخضع له العقولُ والفطرُ السليمةُ، والخطأ واضحٌ لا لبس فيه، ومن جوامع الكلم النبوية وقواعد الشرع: (الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)، وهناك خطوطٌ واضحةٌ، وضوابطُ شرعيةٌ وعرفيةٌ ونظاميةٌ إذا التزم بها الإنسان أصاب الصواب، واجتنب الخطأ حسب الإمكان، وكما أن أسباب تجنب الخطأ ميسورةٌ لمن وفقه الله تعالى، فكذلك أسبابُ خَلَاصِ الإنسان منه بعد التورط فيه بنفسِهِ، أو بمساعدةِ غيرِهِ، فالعصمةُ محصورةٌ على الأنبياء عليهم السلام، وغيرُهم يُخطئ ويُصيب، وإنما التفاوت في غلبة أحد الأمرين على تصرفات الإنسان، وفي الإصرارِ على الخطأ إذا حَصَلَ وتبريره من فاعله، أو من غيره، ولي مع ذلك وقفات:
الأولى: الوقوع في الخطأ بلوى تُصيبُ الإنسان، فغطاء العافية الفضفاض ينحسر جزءٌ منه كلما وقع الإنسان في الخطأ؛ فلهذا يَحسُنُ به التأني والحذر والتأمل قبل الإقدام على الفعل والقول، ومن هَجَمَ على التصرفات والمواقف بلا نظرٍ في العواقب، وارتجل القرارات صدق عليه قول الشاعر:
ومَن لا يُقدِّم رِجْلَهُ مُطْمَئِنَّةً ... فيُثْبِتَها في مُسْتَوَى الأرضِ يَزْلَقِ
وما من مأزقٍ من مآزق الأخطاء يقع فيه الإنسان إلا وللخروج منه مخارجُ مشروعة، فالأخطاء الناشئة عن تقصير العبد في الخضوع لأوامر ربه ونواهيه، يخرج منها بالتوبة والاستغفار، وهذا مطالبٌ به شرعاً، موعودٌ بقبول التوبة منه ما دام في أجله أدنى فسحة، وبإقبال المذنب إلى ربه ينقلب من إشكالٍ إلى فضيلةٍ وخيريَّةٍ، فعَنْ أَنَسٍ بن مالك رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم: كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُون، أخرجه الترمذي وغيره، ومن حاول أن يتخلص من تبعة الذنب بطرقٍ ملتويةٍ خاليةٍ من التوبةٍ والإنابةٍ فقد لَعِبَ بنفسه، ومَكَرَ بها، والأخطاء الناشئة عن التعدي على حقوق الناس المادية والمعنوية والمساس بمشاعرهم، شُرعت لتلافيها وجوهٌ كثيرةٌ يحصلُ بها التخلص من تبعتها، وهي متنوعةٌ حسب حجم الحق الـمُنتهك، وبعضها لا بد من إشراف السلطة المختصة على تمكين صاحب الحق منها، ومنها ما يكفي له الاعتذار والتحلل من المظلوم فرداً أو جماعة، وإعادة الاعتبار لمن أُلحِقَ به الأذى المعنوي، ويتضاعف خطأ من تُسوِّلُ له نفسه أن هناك طريقةً لتلميع صورة الخطأ تُغنيه عن إنصاف المظلوم، بل هذا مُراكمةٌ للأخطاء، وظلماتٌ بعضها فوق بعض.
الثانية: المخطئ كالمريض، وإذا اشتغل بتبرير أخطائه صار كالمريض الـمُصرِّ على أنه في عافية، الرافض لتناول الدواء، والذين يُبرِّرون له أخطاءه بمثابة من يُغرِّرُ بمريضٍ ويقول له: لا تتعالج فأنت صحيحٌ، ورُبَّ مُخطئٍ لم يُواقع الخطأ على وجه الترصد والتبييت، لكنه حَصَلَ منه فلتةً، ثم تمادى في الخطأ وأضاف إليه وجوهاً أخرى من صنفه، بسبب تبريرات الآخرين له، ولو تركوه وشأنه لربما ثابَ إليه رُشدُهُ، أو اكتفى من ذلك الخطأ بالوجه الذي حصل منه أولاً، وهذا التغرير يَدَّعي من يُمارِسُهُ أنه يُساعدُ المخطئ ويُدافعُ عنه، والواقع أنه يتخلَّى عنه في الموقف الذي كان فيه أحوج إلى المساعدة، فالصديقُ مرآةُ صديقه، وعليه أمانة الإخلاص له، فإذا أراه الخطأ صواباً فقد غشَّهُ، وتخلَّى عن مسؤوليته تجاهه، وقد يظن بعضهم أن عدم تبرير الخطأ الواقع من مُحبه يجعله في مصافِّ المتصيدين لأخطاء صاحبه المتحاملين عليه، وهذا تصورٌ خاطئٌ؛ إذ هو إهمالٌ للتوسط، ومعالجةٌ للإفراطِ بالتفريط، والصواب الاعتدال بإيصال الصواب إلى الصديق على وجهٍ مُغايرٍ لأسلوب مستفزيه، والاعتراف بخطئه بصورةٍ لطيفةٍ تجعله يُراجعُ موقفه.
الثالثة: تبرير الخطأ شرعنةٌ له، ووقوفٌ بجانب المخطئ على حساب الصواب، ومحاولةٌ لقلب الحقائق، ومساسٌ بالثوابت والقيم المنظمةِ لحياة الناس، الضامنةِ لتعايش المجتمع، ومن يُضحِّي بها لدعم المخطئ لو أدركَ سوءَ أثرِ صنيعه لكفَّ عن ذلك؛ وذلك لأن المصالح الكامنة في تلك القواعد لا يستغني عنها أيُّ أحدٍ، سواء كانت تلك الثوابت شرعيةً أو نظاميةً أو قيماً عرفيةً، فكلٌّ من هذه القواعد مِظلَّةٌ حاميةٌ، ولا أحد ينتفع بزحزحتها عن مراكزها، وإذا وقع الإنسان أو صاحبه في خطأ يُحرِّمُهُ الشرع، أو تُعاقبُ عليه الأنظمة، أو تستهجنُهُ الأعراف، فلا ينبغي أن يتلاعب بتلك الثوابت ليدفع تبعة الخطأ؛ لأن هذه الثوابت تحميه من أن يتسلط عليه غيرُهُ، وتُنصفُهُ إذا ظُلمَ، بل هي تحميه حتى في حالة كونه ظالماً؛ لأنها تزجرُهُ عن التمادي في الظلم، وهذا نَصْرٌ له، وأخذٌ بيده إلى مصلحته.
التعليقات