المجادلة يجب أن تُقدَّر بقدرها، فيُمارَسُ منها ما اقتضته المصلحة كمّاً وكيفاً، ولا يُفتحُ بابها على مصراعيه؛ لتدوم بلا نتيجةٍ، ومِنْ ضَبْطِها من ناحية الكمية: إنهاؤها والانسحابُ منها بمجرد أن يظهر للإنسان أنها تحولت إلى كونها مِراءً وعناداً..
مع تعايش الناس واختلاف مستوياتِ إدراكهم، لا بد من أن تتباعد مواقفهم، وتتباينَ قناعاتهم، وينشأ بينهم نوعُ اختلافٍ في الأمور المحتاجة إلى النظر والتفسير، والاختلاف أمرٌ تقتضيه الحكمة الإلهية، ولو شاء الله لم يختلف اثنان من عباده، ولكن كتبه على الناس لحكمةٍ يعلمها، ومن الحِكَم التي ينطوي عليها الاختلاف ابتلاءُ مدى السمعِ والطاعة عند العبد؛ فكيفية تعامُل المتخالفين من أعمال القلب والجوارح الـمُثاب أو الـمُعاقب عليها، فهي من أعباء التكليف في هذه الدنيا، والـمُخالفُ لا يخلو من إنصافٍ يُمدحُ به إذا غلب عليه، أو بغيٍ يُذَمُّ به إذا طغى عليه؛ فمن راعى أوامر الشرع في التعامل مع قضايا الخلاف، ووقف عند حدود نواهيه المتعلقة به لم يزل يتحرى الحق ويلتمسه، ويُخلصُ في طلبه، ويُنصفُ المخالف ويُجادله بالتي هي أحسن، ولو كان خلافه معه في أصولٍ جوهريةٍ تطبيقاً لقوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ومن لم يُبال بالأوامر والنواهي عالج الخلاف على حسبما تُملي عليه نفسه، وعامل المخالف بما لا يؤدي إلى تلاقي مواقفهما، ولو كان ذلك ميسوراً، ولي مع فقه المجادلة وقفات:
الأولى: المجادلة يجب أن تُقدَّر بقدرها، فيُمارَسُ منها ما اقتضته المصلحة كمّاً وكيفاً، ولا يُفتحُ بابها على مصراعيه؛ لتدوم بلا نتيجةٍ، ومِنْ ضَبْطِها من ناحية الكمية: إنهاؤها والانسحابُ منها بمجرد أن يظهر للإنسان أنها تحولت إلى كونها مِراءً وعناداً، كما يدل عليه حديث أَبِي أُمَامَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا...»، أخرجه أبو داود، ولضبطها من ناحية الكيفية أوجه، منها التفريق بين اختلاف التضاد واختلاف التنوع، أما اختلاف التضاد فهو الواقع بين الهدى والضلال، وبين أهل الجماعة وإمامهم والبغاة والخوارج، واختلاف التنوع هو الواقع بين وجهين من أوجه التشريع كاختلاف كيفيات الأذان والتشهد، وقد يحصل في المعارف وفي شؤون الحياة بأن يتَّحدَ المعنى والغرض، لكن يُعبِّرُ كُلُّ طرفٍ بعبارةٍ، أو يتجه اتجاهاً معيناً، ويتخذ سبباً خاصّاً، فيعتبران أنه خلافٌ معنويٌّ واقعيٌّ، ومن أهم ضوابط المجادلة إعطاء كل من اختلاف التضاد والتنوع الحجمَ الذي يليق به بتحري الصواب في الأول، وتمهيد العذر للمخالف في الثاني، وعدم التعدي في الرد في كل منهما، وقد يقع التعدي في اختلاف التضاد مع ظنِّ كثيرٍ من الناس أنه يُخَوِّله أن يبلغ من مضادة الخصم كل مبلغ، وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على وجهِ وقوعِ التعدي فيه فقال: (لكن نجد كثيراً من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع مُنازعه فيه حقٌّ ما، أو معه دليلٌ يقتضي حقاً ما، فيرد الحق في هذا الأصل كله حتى يبقى هذا مُبطلاً في البعض كما كان الأول مبطلاً في الأصل)، وأما التعدي في اختلاف التنوع: فبتنزيله منزلة التضادِّ، وتضليل المخالف فيه، وتضخيمه.
الثانية: من سلبيات المجادلة غير الموزونة بميزانها الصحيح أنها من أكبر أسباب التنافر، ودواعي التطاول على المحترَمات؛ لأن المجادلة بلا ضوابطَ صحيحةٍ لا تخلو من بغيٍ واستطالةٍ؛ ولأن المتماديَ فيها محكومٌ بدواعي الغضب والانتصار للنفس، والغضب يحمل الإنسانَ على الاستهانة بالمهمات، وتجاهل خصوصية المحترمات، فلا يكاد المجادل جدلاً عاصفاً يستذكر حرمةَ ذي سلطةٍ معظَّمةٍ، أو علمَ ذي علمٍ معتبرٍ، أو شيبةَ ذي شيبةٍ محترمةٍ، وقد عبَّر عن هذا أحسنَ التعبير من قال:
فَدَعْ عَنْكَ الْمِرَاءَ وَلا تُرِدْهُ ... لِقِلَّةِ خَيْرِ أَسْبَابِ الْمِرَاءِ
وَأَيْقِنْ أَنَّ مَنْ مَارَى أَخَاهُ ... تَعَرَّضَ مِنْ أَخِيهِ لِلِّحَاءِ
وَلا تَبْغِ الْخِلافَ فَإِنَّ فِيهِ ... تَفَرُّقَ بينِ ذَاتِ الأَصْفِيَاءِ
هذا مع أن الأثر المرجوَّ من النقاش لا يكاد يترتب على مثل هذه المجادلة، فما هي إلا أضرارٌ محضةٌ.
الثالثة: من أسباب تعوُّد الجدال السلبيِّ عدمُ التغافل المحمودِ، والولوعُ بالاعتراض والتعقيبِ على آراء الناس وأقوالهم، وقد يُبالغُ بعضهم في هذا حتى يتحول سلوكه إلى مطاردة الآخرين والتنمُّر عليهم، وتجهيز المحاكمات لكل ما يصدر عنهم، وقد يتجاهل الأحوال الخاصة ببعض من حوله، فيعرف أن فلاناً ممن تعتريه الحدة عند الاعتراض والتشويش عليه، لكنه لا يكفُّه ذلك عن مجادلته، وقد يُوقعُهُ هذا في الإخلال بالأدب الواجب، فيحمله عشقُ الرد على الاعتراضات على وليِّ أمره، وعلى العلماء وعلى والديه، ولا شك أن مَنْ هذا حاله محرومٌ من نعمتي حسن الأدب، وترك ما لا يعنيه، ومُصابٌ بمرضٍ فكريٍّ خطيرٍ لا يسعه التأخيرُ في طلب الدواء الناجع فيه، فعلى من عرف في نفسه خصلةَ المجادلة السلبية أن يُجاهد نفسه حتى يتخلص من ذلك.
التعليقات