الشرع الحنيف قد تضمن تشريع الآداب اللازمةِ لكون المجالس على أحسن ما يُرام، ولا فرق في ذلك بين المظاهر التنظيميةِ الحِسِّيَّة كفسحِ المكانِ لمن دخل، وعدم الجلوس بين اثنين إلا بإذنهما، وبين تَقْنينِ المضمون وتهذيبه من شوائب الظلم والتعدي..

مما يرفع مكانةَ الإنسان بين معارفِه التزامُه بمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وهو مأمور بذلك شرعاً، ومُطالَبٌ به عرفاً، ومن أهمِّ خصال الآداب ما يتعلق بانضباط الإنسان في معاملة الآخرين ومخاطبتهم، وما يتجسد فيه احترام خُصوصياتهم ومراعاة مشاعرهم، فالالتزام بمثل هذه الآداب مما يتم به إنصاف الخلق وصيانةُ حقوقهم، وإنزال كل منهم منزلته، والإخلال بها مذموم؛ لأنه من قبيل الزهد في الأخلاقِ الحميدةِ، بل يزيد على ذلك أنه لا يخلو من غَمْط لحقّ ذي حقِّ، واستخفاف بحرمة الآخرين، وآدابُ المجالس من الآداب التي ينبغي أن يأخذ الإنسانُ نفسه بمراعاتها؛ لعموم الحاجة إليها، وسوءِ الآثار السلبية الناجمة عن التهاون بها؛ ولأن المجلس إذا غابت عنه آدابه لم يكن محموداً ولو أحيط بالتنظيم الشكلي، كما أنه إذا تكلَّل بالآداب لم ينقصه كونه بسيط الترتيب خالياً من التكلفات، فإذا حُمِد المخبَرُ لم يلتفت إلى عدم بهرجةِ المنظَر، وإنما يُحمد المجلس بضوابطه وفقهه، ولي مع فقه المُجالسة وقفات:

الأولى: الشرع الحنيف قد تضمن تشريع الآداب اللازمةِ لكون المجالس على أحسن ما يُرام، ولا فرق في ذلك بين المظاهر التنظيميةِ الحِسِّيَّة كفسحِ المكانِ لمن دخل، وعدم الجلوس بين اثنين إلا بإذنهما، وعَدَمِ إقامة إنسان من مجلسه، وغير ذلك، وبين تَقْنينِ المضمون وتهذيبه من شوائب الظلم والتعدي، بحيث لا يُسمحُ أن ينعقد المجلسُ على المحظورات الشرعية، كما يدل عليه قوله تعالى: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، فلا يسوغ أن يكون مجالُ الحديث في المجلس مما يمسُّ المقدساتِ الشرعيةَ بجميع أنواعها، ومن المساس بها التَّقوُّلُ على الله تعالى وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يحصل بمجرد تناول الكلام في الشريعة من طَرَفِ من ليس متخصصاً فيها أو ناقلاً عن العلماء المعتبرين بشروط النقل المعتبرة، كما لا يسوغ لأهل المجلس أن يسمحوا فيه بانتهاك الحرمات التي نهى الله عن انتهاكها، سواء كانت عامة أو خاصة، فانتهاك الحرمات العامة كالخوض فيما يضرُّ المجتمعَ، والتطرق للأمور المخلة بمصالح الناس في أمنهم ومعاشهم، وتداول الكلام الذي من شأنه إرباك الناس وإثارة الفوضى بينهم، كالنيل من الدولة وسياستها وقيادتها، وإثارة النعرات والحزازات القبَليَّة، وانتهاك الحرمات الخاصة كالوقيعة في شخص بعينه أو أشخاص معينين.

الثانية: يظنُّ بعض الناس أن تَوثُّقَ الصلة بينه وبين فلان يُسوِّغ له أن يتفوَّهَ له في المجلس بكلِّ ما شاء، وأن يتطرق من ذكرياتهما إلى ما أراد، وليس الأمر كذلك، فالخصوصيات محمِيَّة، ولو كانت الرابطة القوية مُبيحة لإفشاء الإنسانِ كلَّ ما يعرف عن الآخر لم يُشدّد النهي في أمر تحدّث أحد الزوجين بما يقع بينهما في علاقتهما الخاصة، والأصل في المجالس أن لا تخلوَ ممن يُتحفّظُ منه، وكم من شيء تعرفه عن صديقك ويضحك منه لو ذكَّرته به خاليين، وليس سُبَّةً ولا شنيعاً، لكنه يُحرجه أن تذكره أمام ولده أو أخيه الصغير أو تلميذه، وبعض الناس يجد الصعوبةَ في التوسط بين الأخذ بما يقتضيه الاجتماع من التحفظ وصونِ كل واحد من الجلساء لحقوق الآخرين، وبين المغزى من كثير من المجالس من الارتياح والانبساط، والإتيان بما يجلب الأنسَ ويطرد الوحشة، ويسود به البِشْرُ والبشاشةُ، فمن كانت طبيعته عدم الاعتدال في الأمور رأى التعارض بين الطرفين، فإما أن يتزمَّت وينقبضَ ظنّاً منه أن ذلك هو السبيل الوحيد لحفظ حق المجلس، وإما أن يسترسل إيثاراً للإيناس، والواقع أن لا تعارض بين الأمرين، ويمكن الجمع بين المطلوب منهما بلا إفراط ولا تفريط، وفي الأخذ بقواعد الشرع وضوابط عرفنا وقِيَمِنا ما يكفل الاعتدال في ذلك بإذن الله تعالى.

الثالثة: كما أن خوضَ أهل المجلس في المضارِّ محظور على ما سبقت الإشارة إليه، فخوضهم في المنافع محمود، فينبغي أن لا يخلوَ المجلس من الأحاديثِ المثمرة، من تذكيرٍ بالله تعالى وتعظيم له ولشرعه، ومن التوجيهات النافعة في حياة الناسِ وشؤونهم، لا سيما إذا حضره الناشئة؛ فإن من أساليبِ غرس القيم والمبادئ في قلوبهم أن يُعادَ الحديث عنها بحضرتهم من غير أن يوجَّه إليهم الخطاب، فإن نفوسهم تنبسط كثيراً إلى ما يتلقفون في المجالس، وهذه اللَّفتة التربوية ضروريةٌ في عصرنا الذي توفرت للناشئة فيها وسائل الاطلاع على محتويات التواصل الاجتماعي بما فيها من غثٍّ وسمين، فما أحوجهم إلى أن يسمعوا في مجالسنا ما يُعزِّزُ عندهم الروحَ الدينية، والقيمَ الأصيلة وحبَّ الوطن وتعظيمَ قيادته، ليكونَ هذا سُوراً بين أفكارهم وبين المفاهيم الهدامة.