في بداية الثمانينات الميلادية وقبلها بمدة كانت فرص التعليم والتوظيف متهيئة بشكل واسع وسهل وخيارات متعددة وتخصصات عديدة ومجالات توظيف ميسرة وبطبيعة عمل يسيرة، ولم تكن مهنة التمريض تلك المهنة الجاذبة لا ماديا ولا اجتماعيا ولا في طبيعة العمل ولا ساعاته، وكانت دراستها (وما زالت) ليست سهلة مقارنة بغيرها من التخصصات غير الصحية، ومع ذلك بادرت مجموعة من بنات هذا الوطن بتلبية الحاجة الوطنية الملحة ودخلن غمار هذه المهنة الشاقة بكل ما فيها من صعوبات، ومعوقات أشدها في ذلك الوقت الاجتماعية.
لم أتشرف قط بالانتساب لوزارة الصحة كموظف، لكنني عملت في مدينة الملك سعود الصحية (المعروف آنذاك بالمستشفى المركزي أو مستشفى الشميسي) في الثمانينات الميلادية بالتكليف من جامعة الملك سعود كعمل إضافي لعملي كمعيد ثم محاضر بأجر مدفوع من الجامعة عوضا عن بدل التفرغ الذي لا يحصل عليه الأكاديمي إلا بالعمل الإضافي، وكان ذلك التكليف من أجمل مراحل حياتي العملية، حيث كنا نتعامل مع مرضى في أمس الحاجة لعنصر وطني في أي مجال صحي، خاصة الصيادلة والممرضات، حيث كنا وسيلة الربط بين المريض وطبيب من الهند أو الباكستان، فقد كان الأطباء السعوديون قلة، لكنهم كانوا قمة في الإخلاص والتفاني من أجل المريض، وأذكر منهم الطبيب محمد المعجل والطبيب عبدالله الكريدة -رحمهما الله-، والطبيب محمد المفرح والطبيب صالح قمباز والطبيب فهد الشدوخي وطبيب الأسنان عبدالله الحواسي -أمد الله في عمرهم على طاعته-.
في تلك المرحلة المهمة كن بنات الناصرية يقمن بعمل جبار كممرضات سعوديات مخلصات يتولين مهام عظيمة إلى جانب التمريض منها استقبال الحالات الإسعافية والترجمة والتواصل مع الأهل وتولي المهام الإدارية ذات العلاقة بالتمريض وتحديد شواغر الأسرة ونقل المرضى وتأمين احتياجات المصابين كالجبائر والكراسي المتحركة واستلام أدوية المنومين والتنسيق أثناء أوقات الزيارة وتوجيه الزائرين، فلم تكن الخدمة الاجتماعية مفعلة تماما ولم يكن ثمة اختصاصيات اجتماعيات سعوديات كما هو الآن (وإن كنت أرى دور الاختصاصيات الاجتماعيات في المستشفيات ما زال مظلوما ولم يتح لهن أن يمارسن ما تعلمن كما يجب)، وكن بنات الناصرية يناوبن ليلا في مراكز الطوارئ وغرف العمليات ويقمن بمهام متعددة، كنا نشعر بها ونفاخر بها، وكنا نسميهن (بنات الناصرية) لأنهن تخرجن من معهد التمريض بالناصرية، وأيضا لأن بعضهن نقلن من مستشفى للعيون في حي الناصرية بعد أن شب فيه حريق استدعى توقف العمل فيه، لكنهن جميعهن تعلمن في ذلك المعهد بالناصرية، وكن مثابرات وصابرات فيحضرن دورات تعليم مستمر في التمريض في مستشفى الملك خالد الجامعي ومستشفى الملك فيصل التخصصي ومستشفى الملك فهد بالحرس الوطني مع التزامهن بالدوام اليومي والقيام بالنصاب كاملا في نفس اليوم، ومنهن من كن ينتدبن في موسم الحج حيث المهام الأشد والاستنفار الأعظم.
أعتقد أن هذا الوقت، الذي يتولى الإدارة في وزارة الصحة إداريون متخصصون في الإدارة وذوو نظرة شاملة تقدر جهود جميع أعضاء الفريق الصحي بكل حياد وإنصاف، هو الوقت الأنسب لتكريم بنات الناصرية تكريما يليق بما قدمن، وأن يشملهن وعائلاتهن ضمان صحي لائق إلى أن يطبق الضمان الصحي الشامل الموعود، وأذكر منهن مشرفة التمريض هند الجوهر ومشرفة التمريض عزيزة موسى الشيخ ومهرة موسى الشيخ ووردة مرزوق البلوشي وبركة سعيد العسيري، وقد أكون نسيت الكثير منهن، ووعدتني مشرفة التمريض هند الجوهر بأسماء من تذكر منهن، ثم خافت أن تسقط سهوا بعض الأسماء، فاقترحت علي أن تتولى وزارة الصحة العودة للسجلات لتكون القائمة شاملة، وكلي أمل في الوزير النشط الأستاذ فهد الجلاجل أن يولي هذا الأمر اهتمامه المعتاد فيحصلن على تكريم يليق بما قدمن ويتناسب مع ظروف الزمان والمكان والوضع الاجتماعي وتضحياتهن في ذلك الوقت.
التعليقات