إن صناعة اتخاذ القرار هي مهمة واجبة بما يخدم صناعة التفكير عند أجيالنا الحاضرة والقادمة، بما يشكل السلوك الجمعي وبما يؤسس لعلم صناعة اتخاذ القرار، بحيث أن يجعل الفرد يتخذ القرار فور الانتهاء من تلقي جرعة أدبية أو إعلامية أو حتى مسرحية، خارجا منها باتخاذ قرار تشكل في وعيه هو، وتفاعلت معه كيمياء جسده..
إنه لم يعد في يومنا هذا -بما له من آليات تفكير وأفكار، وبما يستلزم علينا فعله– من التنوير والتركيز على كيف تكون صناعة القرار؟ وكيف يمكن للناشئة- من الأجيال الحاضرة والقادمة - القدرة على هذه الصناعة وكيفية اتخاذ القرار؟
ليس بالأمر اليسير على أن نجعل من هذه الأجيال جيل قادر على اتخاذ القرار، فاتخاذ القرار له آلياتهوصناعته في تفعيل هذه الملكة التي حباها الله للإنسان، لكنها تحتاج إلى تحفيز بعلم أسميته (صناعة اقتصاد الوجدان).
هذه الصناعة لا يتسنى لها التفاعل إلا في الدماغ، عبر عمليات مرسلة يتم من خلالها التسلل إلى منطقة الوجدان عبر ما يسمى بـ(التسرب الانفعالي).
هذا التسرب الانفعالي لا يمكن له الولوج إلى الدماغ حيث (منطقة الوجدان) إلا عبر الحواس الخمس! ولذلك تكون التكئة على المرسلات و"على مقدار جودة المرئي والمسموع لكي ننتهي إلى جودة الفعل من بعد".
وهذه العبارة هي مقولة تم تعديلها من قِبَل علماء التربية والاجتماع لما يقول نصها عند ابن خلدون" على مقدار جودة المحفوظ والمسموع تكون جودة الاستعمال من بعده". لم يكن تعديل هذه العبارة إلا حسبما تعدَّل الزمن وآلياته، فلم يعد للحفظ والنقل مكان في ثقافة هذا العصر بمرتكزاته العلمية التي لا يتوجب فيها الاعتماد على الحفظ والنقل، بل على التفكير الناقد وإعمال ملكات التفكير، وهذه العمليات لا يتسنى لها الفعل إلا في منطقة (الدماغ).
هذا وقد أكد الفلاسفة المسلمون في فلسفاتهم ذات الصلة، على أن الحواس الخمس هي الروافد الموصلة لما أسموه بـ(المتخيلة) وخاصة في كتاب الإشارات لابن سينا، ولكنهم لم يشيروا إلى مكانها والتي اتضح لنا في نظريتنا (البعد الخامس) بعد الاتصال بعلماء المخ والأعصاب -مثل الدكتور أحمد أبو العزايم وغيره- بأنها منطقة في الدماغ وهي ما يطلق عليها علميا بـ (الأميجدالا) ذلك الفص الصغير الرابض تحت فصي المخ، والتي تفرز مادة (الدوبامين) والتي تستقبل عبر الحواس الخمس كل المرسلات، لتفرز هذه المادة مما يجعل الإنسان يتقلب بين اللذة والكدر بحسب مادة (الدوبامين) وما تفرزه، وبما لها من اتصال بتلك الغلالات العصبية المغلفة لها.
ولذلك نتساءل: هل فقه الإعلام المرئي والمسموع لهذه الوظيفة شديدة الخطورة في حركة الشارع وما تؤسسه في عمليات السلوك البشري واتخاذ القرار؟
إنها حقا وظيفة شاقة في ضوء ما نراه اليوم من هذه السيلانات الإعلامية بلا وعي لما تفعله، فالأمر المباشر أو الرسالة المباشرة لم يعد لها مكان في يومنا هذا، ولما لفطرية النفس البشرية من تمرد على الأوامر المباشرة! ولذلك فإن علم الاتصال الحديث يعتمد على ما نسميه بـ(الحقن تحت الجلد) وهو يرتكز على استخدام عوامل ثلاثة وهي (العقيدة، السرد، وإثارة الخيال) لتتحقق المتعة أثناء التلقي ومنها تتسرب الرسائل إلى منطقة الوجدان التي أشرنا إليها والتي تعمل على تفاعل (الأميجدالا) كي تجعل اتخاذ القرار يسيرا في نهاية تلك المرسلات غير المباشرة، والتي تتسرب طواعية إليها. ولذاك سبق أن طالبنا بتدريس منهج التفكير الناقد في المدارس، ذلك لأنه يعتمد على تلك التفاعلات الدماغية في التفكير.
ففي هذا الصدد ذي الصلة يقول أبو إسحاق الشيرازي في كتابه (الطب الروحاني) "بمعنى ما يلزم من شعور بالشيء تحكم النفس عليه بأنه خير أو شر، وهذا الحكم إما يلزمه من تقليد وإما من رأي فاسد، ثم إذا ثبت هذا الحكم في النفس صار اعتقادا، وإذا ثبت اعتقادا لزم منه خلق، وإذا تحرك الخلق لزم منه انفعال، ثم صدرت منه الأفعال".
ولقد أشار الفيلسوف البريطاني الألماني (هربرتايرفينغ شيلر 1864 - 1937) في كتابه التلاعب بالعقول إلى ذلك، لأنه أدرك قوة الآلة الإعلامية الأمريكية في استخدام هذا العلم في السيطرة على العقول، وبراعة ما يسمى بالتسرب الانفعالي من خلال تلك المرسلات والارتكاز على تلك الوسائل الثلاث التي أشرنا إليها سلفا. حتى أن وصل الأمر إلى تدخل (اليونسكو) على أن تقوم بتبني نظام اعلامي جديد لعله يحفف من ذلك التأثير ويقلل من تلك الهيمنة.
إن سحبنا – في نظريتنا (البعد الخامس) لوظائف الدماغ، هو إخراجها من الإطار الطبي الذي يهتم بصحة الفرد، إلى الإطار المعرفي العلمي والأدبي والإعلامي باستخدام الوسائل المشار إليها، لكي يتسنى لنا ذلك التأثير المتسلل للوجدان والتفاعل في عمليات الدماغ عبر مرسلاتنا غير المباشرة، والتي برعت فيها الآلة الإعلامية الأمريكية والتي نقلدها بلا وعي بما تحويه رسائلها ودلالاتها التي لا تخدم سوى مصالحها هي دون غيرها، فإذا ما أمعنا النظر في صناعة الأفلام الأمريكية فسنجد التركيز على البطل الذي لا يقهر، مما رسخ في الاعتقاد بأنها هي التي لا تقهر فتغيرت وجهة نظر العالم بأسره لها دون غيرها!
إن صناعة اتخاذ القرار هي مهمة واجبة بما يخدم صناعة التفكير عند أجيالنا الحاضرة والقادمة، بما يشكل السلوك الجمعي وبما يؤسس لعلم صناعة اتخاذ القرار، بحيث أن يجعل الفرد يتخذ القرار فور الانتهاء من تلقي جرعة أدبية أو إعلامية أو حتى مسرحية، خارجا منها باتخاذ قرار تشكل في وعيه هو، وتفاعلت معه كيمياء جسده المتأثرة بكل المدخلات عبر الحواس الخمس مستعينين بهذه الوسائل الثلاث (السرد، العقيدة، وإثارة الخيال) في مناخ ممتع سارق لكل الحضور الآني لحظة التلقي، ثم الإفاقة على قرار متخذ سيشكل الشارع العام فيما بعد.
التعليقات