عمارة الحداثة لم تكن مبانٍي مجردة فقط، بل حكايات تروي تحول مجتمع المملكة بشكل عام والرياض بشكل خاص، فخلف كل مبنى هناك قصة حول التحول المجتمعي التدريجي نحو الحداثة الثقافية المجتمعية التي لم ترصد بشكل دقيق..

زارني صديق من لبنان لم أره منذ أكثر من عشر سنوات وفاجأني أنه أول مرة يزور الرياض والمملكة، إذ لم يسبق له زيارة أي مدينة سعودية من قبل، الصديق مهتم بتراث العمارة الحديثة وكان في جيبه قائمة لبعض المباني صممها معماري لبناني يدعى سعيد حجال كان قد عمل في الرياض مع شريك سعودي يدعى صادق كعكي بين عامي 1955 و1960م، أي في الفترة التي نطلق عليها "صدمة الحداثة"، الدكتور "جورج عربيد" وهو اسم الصديق أفنى حياته في دراسة العمارة الحديثة في لبنان والعالم العربي، وكان يتحدث معي عن هذه العمارة بعاطفة جياشة، وقال لي إنه لا يتصور نفسه يعمل في موضوع آخر حتى آخر يوم في حياته. المثير في الأمر أن ما نطلق عليها عمارة الحداثة في الرياض أصابها الكثير من التشويه ولم تبقَ على حالها الأصلي وكثير منها أزيل واختفى من الوجود وصارت من الصعب تتبع تطور تلك العمارة التي جسدت التحول الكبير لمدينة الرياض من مدينة تقليدية مبنية بالطين إلى مدينة تحاول أن تلحق بركب العصر لتجد لنفسها مكاناً بين العواصم العربية الكبرى.

سألته هل تعرف كيف تبنت الرياض عمارة الحداثة في مطلع الخمسينات من القرن الماضي؟ كانت إجابته بالنفي، وهذا متوقع إذ يبدو أننا لم نستطع أن ننقل حكايات مدننا ولم نوثق قصص العمارة فيها، ومع التطور المذهل التي مرت بها المملكة خلال السبعة عقود الفائتة ضاعت تلك القصص ونساها الناس، قلت له إن قصة الحداثة في الرياض بدأت بشكل عملي متسارع بعد زيارة الملك عبدالعزيز لمصر عام 1946م وكان بمعيته ولي العهد آنذاك الملك سعود، في تلك الزيارة انتقل الموحد من السويس إلى القاهرة بالقطار وعندما عاد إلى الرياض قرر بناء سكة حديد تربط العاصمة بساحل الخليج مروراً بالأحساء، في تلك الفترة بدأ دخل المملكة يتصاعد من النفط بعد الحرب العالمية الثانية وفعلاً تم توقيع العقد مع شركة بكتل الأميركية عام 1948م وتم افتتاح سكة القطار عام 1951م، بعد هذا المشروع العملاق لم تعد الرياض كما كانت من قبل معزولة وسط الصحراء بل أصبحت مطلة على البحر بوسيلة نقل تربطها مع العالم الخارجي وتقنياته بما في ذلك مواد البناء الحديثة.

يمكن القول إنه أثناء وبعد الانتهاء من بناء سكة الحديد بدأ عصر الحداثة المعمارية في الرياض وصارت تظهر مبانٍ خرسانية متناثرة حول المدينة القديمة وحتى داخل الكتلة التاريخية ومنطقة قصر المربع. ذكرت للصديق العزيز أن وجود مجموعة من المعماريين اللبنانيين والسوريين والمصريين وغيرهم بدأ مع هذا الحدث المهم، وكون هؤلاء اتجاهاً معمارياً صادماً لسكان الرياض لكنه كان مرغوباً لأنه يعبر عن "الحياة الجديدة" التي كانت تسعى الرياض لتكريسها، الحديث بكل ما يعني من تطور ومن تجديد جعل سكان الرياض يطلقون على الناصرية والملز في نهاية الخمسينات "الرياض الجديدة" وقد كان ذلك يعني أن الصورة الذهنية العمرانية وحتى الحياتية منقسمة أيما انقسام بين الصورة القديمة وتلك الجديدة التي كانت في طور التشكّل. إذاً عمارة الحداثة لم تكن مبانٍي مجردة فقط، بل حكايات تروي تحول مجتمع المملكة بشكل عام والرياض بشكل خاص، فخلف كل مبنى هناك قصة حول التحول المجتمعي التدريجي نحو الحداثة الثقافية المجتمعية التي لم ترصد بشكل دقيق.

سألني الصديق سؤلاً مباشراً احترت في الإجابة عليه، قال: أين كليات العمارة المنتشرة في كثير من مناطق المملكة، لماذا لم تعمل على توجيه الطلاب وبحوث الأساتذة لتوثيق تلك الفترة المهمة؟ قلت له ليست تلك الفترة فقط بل حتى الفترات السابقة واللاحقة لم تحظَ باهتمام جاد من قبل باحثي العمارة السعودية، ومع ذلك لا يمكن إنكار بعض الجهود الفردية التي قام بها البعض، لكن لا يوجد اهتمام واضح وتراكم معرفي يمكن الاعتداد به في هذا المجال. ذكرت له أنه في الفترة الأخيرة هناك اهتمام واضح بالعمارة الحديثة في الرياض وتقوم أكثر من جهة بتوثيق هذه العمارة وكذلك هيئة التراث لديها مشروع لتوثيق العمارة الحديثة بالمملكة، لكنه لا يصل إلى الاهتمام نفسه الذي تبديه بعض الجهات التي تعمل في الرياض. كان تعليق الصديق هو أن هذا أحد واجبات مدارس العمارة وما لم يكن هناك "نواة محلية" تحرك العمل البحثي التوثيقي لن يحدث شيء على أرض الواقع. المسألة "أرشيفية" أي أن مثل هذا العمل يتطلب متخصصين مدربين على البحث في الأرشيفات العامة والخاصة قبل المباني نفسها، وهذا عمل كبير ومجهد.

تذكرت بعد هذا الحديث كثيراً من المقالات التي كتبتها حول توثيق العمارة السعودية، وكيف أن العمارة ليست جزءًا من الحوار الثقافي، فهي لا تحظى باهتمام فكري ونقدي واسع حتى تتطور حولها ثقافة بحثية تراكمية، الأمر الذي يجعل "أركيولوجية" مدننا غير مكتملة ويصعب سرد حكاية كاملة حولها.