ما يدفع النقاد والفلاسفة للتنظير هو التقلب في فضاءات الدهشة نحو الكمال، وهذا ما نجده في أفكار الفلاسفة المسلمين، ثم نجده يمتد في ثنايا أفكار الفلاسفة الغربيين المحدثين في شكل يتباين فيه الأسلوب ويبقى المعنى واحداً في عدة مناحٍ تنظيرية كالهوية والحركة والزمان والشخصية وغير ذلك من الفكر الفلسفي العربي..

إن ذلك القلق الدائم والمحموم بالأنس أو المؤانسة المعرفية هو ما جعل وزارة الثقافة بالمملكة تقيم مؤتمر الفلسفة الدولي، وذلك لما توليه الوزارة من اهتمام بالثقافة والمعرفة، لكون الفلسفة هي عمق الفكر الذي تنبت منه المعرفة والتنظير، لأن ما يدفع النقاد والفلاسفة للتنظير هو التقلب في فضاءات الدهشة نحو الكمال.

وعلى هذا النحو نجد ذلك الوهج في أفكار الفلاسفة المسلمين، ثم نجده يمتد في ثنايا أفكار الفلاسفة الغربيين المحدثين في شكل يتباين فيه الأسلوب ويبقى المعنى واحداً في عدة مناحٍ تنظيرية كالهوية والحركة والزمان والشخصية وغير ذلك من الفكر الفلسفي العربي الذي قد اطلع عليه هؤلاء أو تلامسوا مع هذه المعارف، مما يجعلنا نميط اللثام عن هذا التقارب النظري إذا ما دققنا القراءة في هذه النظريات، فيستقر الوجدان الجمعي العربي حول هذه النظريات الغربية التي قد تبدو معقدة لدى الباحثين والدارسين، وتنشيط الذاكرة العربية بما لديها من فكر عربي عريق يفوق تلك النظريات الوافدة إن لم يتساوَ معها. وعلى سبيل المثال ما نجده في آراء "جاك دريدا" و"ميشيل فوكو" و"باختين" و"لوكاكش" و"جولدمان" وغيرهم ممن تقلب وجهه في فضاءات النظرية الغربية.

فحينما ندقق النظر في آراء كل من الفلاسفة المسلمين ورأي "دريدا" عن هوية الذات نجده يرى أنه لابد من التخلي عن التعارضات. أي أنه لابد لفهم العالم من خلال تلك التعارضات أو الاختلافات بحيث إننا لابد أن نجرد الشيء من أي تعارضات تتعرض له بشكل عنقودي متسلسل ليتضح الشيء بعد إزالة تلك العوارض أو الاختلاف وهو العودة للبكر "والذي يساوي الجوهر لدى الفلاسفة المسلمين". فالطرف الأول يسبق الطرف الثاني كما يرى أن هناك أطرافاً ثانوية من قبيل الغياب والاختلاف فيضع نهاية لنسق التعارضات. فبإظهار التعارضات يمكن الوصول لمفهوم التأسيس الأصلي فيقول: (الاختلاف مثلا بالنسبة للهوية هو في حقيقة الأمر أسبق وأشمل.. فالاختلاف ليس مشتقا من الهوية، بل الاختلاف على الأصح هو ما يجعل الهوية ممكنة)، ثم يقول "مشيل رايان" في هذا الشأن: "إن كل مفاهيم التأسيس foundation أو الأساس ground أو الأصل origion ينبغي إزاحتها بالطريقة نفسها؛ ذلك أنها في حقيقة الأمر نقاط تتموضع في أنساق وسلاسل وحركات أكبر يصفها "دريدا" -في الغالب- باستخدام مصطلحات هي في العرف الفلسفي مجرد عناصر ثانوية ومشتقة مثل الاختلاف والكتابة اللذين يحظيان بسمعة سيئة".

هذه التعارضات أو الاختلافات التي تعتري الأساس، والذي يجب إزاحتها لكي تُدرك الماهية، هي أيضا وردت عند الفلاسفة المسلمين، فنجد الإدراك الحسي لديهم لا يتأتى إلا بإزاحة تلك التعارضات التي أسموها بالغواشي وعلى هذا نجد قول الفارابي أن: "الحس الظاهر لا يستثبت الصورة بعد زوال المحسوس، فهو لا يعمل بدون مؤثر خارجي ذلك أنه ينال الشيء من حيث هو مغمور في العوارض التي تلحقه بسبب المادة التي خلق منها؛ لا مجردة عنها ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته أي إنه يدرك الشيء وقد لحقته غواش غريبة عن ماهيته؛ لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنهه وماهيته.. ولهذا لا تتمثل في الحس الظاهر صورة الشيء إذا زال هذا الشيء".. وهو هنا يقصد الغواشي والتعارضات. فالحس الظاهر أو الإدراك للشيء لا يمكن إلا إذا أزيلت عنه عوارضه.

إلا أن نزع هذه العوارض عن مادتها قد يكون أمرا شبه مستحيل عند ابن سينا حيث يقول: "تأخذ الصور عن المادة مع هذه اللواصق ومع وقوع نسبة بينها وبين المادة، إذا أُزيلت تلك النسبة بطل ذلك الأخذ وذلك لأنه لا ينزع الصورة عن المادة من جميع لواصقها، ولا يمكن أن تستثبت تلك الصورة إن غابت المادة، فيكون كأنه لم ينتزع الصورة عن المادة نزعا محكما، بل يحتاج إلى وجود المادة أيضا في أن تكون تلك الصورة موجودة له. إذاً فالحس الظاهر يكون في هذه الحالة عاجزا عن إدراك الصورة لأنه لا يستطيع تجريدها عن مادتها، وإنما يمكن أن يدركها الحس الباطن الذي يرى الصورة والمعنى معا".

وبما أن "دريدا" قد لجأ إلى مصطلح الاختلاف المرجئ وقد اعتبره أسبق من الجوهر في الحضور هو المبدأ الأساسي في فكره عن الهوية والذات، فهو يراه لا يمكن أن يصل إلى الأساس لأنه لا يمكن فصل الذات عن تلك الاختلافات فـ"لا يتمتع الاختلاف المرجئ بمنزلة الأساس ولا يمكن له أن يلعب دور مبدأ أو أصل أول يتأسس عليه نسق فلسفي، والسبب أنه يُبْطِلُ أي هوية ذاتية غير مختلفة، وهي المقدمة المنطقية الضرورية لأي أساس".

فالاختلاف هنا هو ما يبطل الهوية لدى "دريدا" لأنه لا يمكن عزل الأساس عن الخلاف أو الاختلاف، وبهذا يتفق هذا القول مع فكر "الفارابي" و"ابن سينا" حين رأوا أنه لا يمكن الإدراك الظاهري للمادة، لأنه لا يمكن عزلها عن لواصقها، وهو ما يؤكده أيضا "دريدا" عن الهوية الذاتية في قوله: "كي توجد هوية ذاتية عليها أن تفترض سلفا اختلافها عن شيء آخر. الاختلاف والهوية إذاً يرتبطان ارتباطا "كونيا"، فكلاهما يكمل الآخر –تبادلا- بكيفية تحول دون انقسامهما انقساما، تعارضيا، ترابطيا، صارما".

هذا وقد أخذت منا هذه الظلال الغربية -الممتدة في عمق نظريات وآراء الفلاسفة المسلمين واستلابها- جهدا من التحليل والتفسير حتى انتهى الأمر إلى كتاب كامل وهو "الجزء الثالث من موسوعة نقد النقد" لتبيان هذا الأثر.