التحريض من أخطر أنواع الخطاب غير الواعي، وقلما يخلو منه كلام من يتكلم بلا علمٍ ولا بصيرةٍ، والتحريض أنواع، فمنه تحريض الناس على أوطانهم وولاة أمورهم، وتحريضهم على تقاليدهم وأعرافهم وقيمهم، وتحريض الزوجات على أزواجهن..

الناس متفاوتون في مستويات الإدراك والوعي واليقظة، والتفريق بين النافع والضار، وقد يشترك اثنان منهم في الوعي لكن يربو أحدهما على الآخر بامتلاك أدوات الإقناع وإمكانية التأثير، فمن اجتمعت له موهبتا الوعي وإيصال الفكرة، فعليه مسؤوليةٌ كبيرةٌ تتمثل في الإسهام فيما يجمع ولا يُفرِّق، ويُصلحُ ولا يُفسدُ، ويبني ولا يهدم، ويُقدِّمُ ولا يُؤخر، فإن طاوعته نفسه إلى فعل ذلك على حسب ما يُقرِّهُ الشرع، ويُتيحهُ النظام، ويستحسنه العرف فذاك هو المطلوب؛ إذ هو من استعمال المواهب فيما ينفع العباد والبلاد، وفي ذلك برٌّ ووفاءٌ وأداءٌ لحقِّ الوطن والمجتمع، وإن لم تطاوعه نفسه على تسخير مواهبه في النفع العام، فلا أقل من أن يكفَّ شره بالإقبال على شؤونه الخاصة، وعدم الخوض في الشأن العام، ومن حظي بوسيلة إيصال الفكرة، وذيوع الكلمة من غير أن ينضبط ذلك بوعي يُوجهه إلى المصالح، وبصيرة يُفرِّقُ بها بين الحق والباطل، فالواجب عليه أن يُجنِّب الناس شره، وأن لا ينشغل بالخوض في أحوالهم وشؤونهم، وأن لا ينصب نفسه للتوجيه والمعالجة؛ معوِّلاً على نشوة انتشار خطابه، فإن خاض في التوجيه تحول كلامه إلى خطابٍ تحريضيٍّ سلبيٍّ، ولي مع الخطاب التحريضي وقفات:

الأولى: الـمُحرَّضُ أدنى أحواله أن يُحاول أن يعالج فَيُمْرِض، وأن يجبر فَيَكْسِر، ومع خطورة هذه المرحلة الدنيا من ضرره إلا أنها قليلةٌ في الواقع؛ والأكثر أن يصحبها قصدُ دسِّ السمِّ في العسل، والتغرير بالناس للزجِّ بهم في متاهاتٍ هم في غنى عنها، وإنما كان هذا هو الأغلب؛ لأن الأصل في الجاهل أن يشتغل بشأنه الخاص ولا يلتمس منبراً لمخاطبة الناس، فإذا ما خَرَجَ عن الصمت، وحاول التَّصدُّر فإنما هو لمآرب وحظوظ نفسية، فتجتمع له آفتان خطيرتان، وهما العجز عن قول الخير، والعجز عن السكوت الذي هو البديل السليم المأمور به في الحديث المتفق عليه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)، ولا تُحصى السلبيات التي عانت منها المجتمعات بسبب بعض محبي الظهور المصابين بداء التمادي في الخطاب التحريضي المنفلت؛ وهذا من انقلاب الموازين المشار إليه في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم: إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ.

الثانية: التحريض من أخطر أنواع الخطاب غير الواعي، وقلما يخلو منه كلام من يتكلم بلا علمٍ ولا بصيرةٍ، والتحريض أنواع، فمنه تحريض الناس على أوطانهم وولاة أمورهم، وتحريضهم على تقاليدهم وأعرافهم وقيمهم، وتحريض الزوجات على أزواجهن، والأزواج على زوجاتهم، وتحريض أفراد الأسرة بعضهم على بعض، وكلها شرٌّ وفسادٌ، وقد جاء الوعيد الشديد في إفساد أحد الزوجين على الآخر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَبَّبَ خَادِمًا عَلَى أَهْلِهِ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ أَفْسَدَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا فَلَيْسَ مِنَّا»، أخرجه أحمد وغيره، وإذا كان تخبيب الخادم والزوجة ونحوهما بهذه الدرجة من التحريم مع أن المخبِّب لأحدهما بصورةٍ خاصةٍ ربما أراد أن يشغّل الخادمَ بعد تخبيبه، أو يتزوج المرأة بعد طلاقها، فمن باب أولى تحريم التحريض العامِّ الذي لا يُمكنُ أن يُعوَّض فيه المخبِّب ضحيته ما تسبب فيه من الخسارة لها، كحال من يُحرِّضُ الناس على أوطانهم، ومعلومٌ أن خسارة الوطن لا تُعوَّضُ، فمن يُحرِّضُ الناس على أوطانهم وولاتهم لن يُوفِّر لهم مصلحة واحدة من المصالح التي تتوفر في الأوطان، والتي يتعذر حصرها، وكذلك من يمتهنون الآن تحريض أفراد الأسرة على الزهد في الرابطة الزوجية أو الأسرية، ليسوا بصدد تعويض شيء من ذلك، ولا يسعهم أن يفعلوا أصلاً، وإنما يستهدفون وراء ذلك هدم البناء، وتقويض أركان المجتمع.

الثالثة: يجب التصدي للخطاب التحريضي، وإيقاف المتصدرين له عند حدودهم، بحيث يأمن المجتمع شرهم، وإنما نتمكن من ذلك بتوفيق الله تعالى، ثم بوحدة الصف واتفاق الكلمة، وإعلاء شأن قيمنا ومبادئنا الدينية والمجتمعية التي هي جزءٌ من هويتنا الأصيلة، فهذه أركانُ حقٍّ راسخةٌ، ولا يُقاوَمُ الباطل بأحسن من ترسيخ الحق، ومن طبيعة مواجهة الحق للباطل أن يُراوغ المبطلُ، ويحاول أن يأتي من أي ثغرةٍ أمكنه الإتيان منها، وقد تحطمت محاولاتهم على صخرة العزيمة الوطنية لمجتمعنا، وما زالت وستظل - إن شاء الله تعالى - هذه الصخرة منيعةً، وما زال من يُحاول التأثيرَ عليها في خيبةٍ وهوانٍ.

كنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيَفْلِقَهَا ... فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِلُ