انطلق النقد الثقافي غالباً في دراسته للأدب من أساس بني على كون الأدب ظاهرة اجتماعية، وهذا هو أساس بناء علم الاجتماع –دراسة الظواهر الاجتماعية- مثله مثل بعض برامج تطوير الذات التي بُنيت على مفهوم الذات وهو أساس بناء علم النفس.
وإذا أردنا أن نؤسس لعلم فلا بد من أن يكون لهذا العلم هوية تميزه عن غيره من العلوم، وإلا فإن الدراسات المرتبطة بهذا العلم ستكون بلا هوية مرجعية يمكن الاحتكام إليها والرجوع إلى أسسها ومنطلقاتها.
وهذه الفكرة قد تنطبق على ما سمي بـ»النقد الثقافي» والذي هو في أساسه على ما يظهر نقدًا اجتماعيًا مجتزًأ؛ ترتبك فيه النظرية لدرجة تنعدم معها إمكانية الحكم عليه من خلال أدوات «النقد الأدبي» الذي يرتكز على قواعد واضحة ترتبط بجماليات النص، وكذلك الأمر عندما نريد أن نحكم عليه –أي هذا النقد الثقافي- من خلال «النقد الاجتماعي» الذي يعتمد على أدوات مختلفة عند قراءة النص الأدبي.
إن القراءات التي جيرت لصالح النقد الثقافي في كثير من الأحيان ما هي إلا قراءات اعتمدت على قراءات سياقية ظاهرية، بمعنى أنها خرجت من نسق النص إلى سياق المجتمع والعالم لتقرأ بعضه من خلال بعض. قراءة مفرغة من النظرية الاجتماعية، والنقد الاجتماعي يحكم على جمال النص من حيث محتواه، وبالاعتماد على نظرية اجتماعية أو أكثر، والجمال الأهم يكمن في القدرة على إيصال النص بالسياق الخارجي بحيث يستطيع الناقد استخراج دلالات ذات قيمة تساعد في تحليل الواقع الاجتماعي.
وحتى نعود إلى قضية النقد، فإننا بحاجة إلى وضع تسلسل لبعض المراحل التي مر بها النقد العربي بالتحديد، ويمكن أن نسميها درجات؛ فالدرجة الأولى تتمثل في الذوقية والانطباعية وتحكم على النص وفق ذائقة الشخص والانطباع الذي يصله من خلال اتصاله بالنص، والحكم الصادر هنا يشترك فيه الناقد وغيره، والدرجة الثانية تقوم على بيان أسباب الإعجاب بنص أو تفضيل نص على آخر وتسمى المعيارية، ومن ثم أخذ النقد صورته العلمية وهذه هي الدرجة الثالثة، أما الدرجة الرابعة وهي المنهجية، وهي التي نتحدث عنها في هذا المقال والتي يُفترض أن نأخذها بالحسبان في هذه المرحلة المتقدمة من مراحل الحراك النقدي العربي عموما والسعودي خصوصًا، ولا ننسى أن نشير إلى أن هذه الدرجات أشار إليها بدقة ووضوح وبتفصيل أكثر في مقال جدير بالقراءة الدكتور فهد البكر على صفحات جريدة «الرياض» تحت عنوان «درجات النقد الأدبي»، وربما يكون البكر أشار أيضًا إلى ما يدور حوله هذا المقال وإن كان توقف عن إصدار حكم قاطع عندما قال: «وهي درجات عدلت بالنقد من الأدبية إلى حقول أخرى كـ(الثقافية)».
إن النقد الثقافي ونتاجه النقدي مهمان للغاية ولا يمكن التقليل من هذه الأهمية الكبيرة، وإنما الحديث عن تحديد هوية هذا النوع، وتحديد مرجعيته، والتي أرى أنها علم الاجتماع، وربما ندرة المتخصصين في حقل علم اجتماع الأدب في الوطن العربي جعلت هذا النقد –أي النقد الثقافي- يطول به الانتظار. وموت النقد الثقافي لا يعني موته فعليًا وإنما إعادة إحيائه ضمن أسرته في علم الاجتماع.
التعليقات