فُطر الإنسان على حبّ الاستقرار والبقاء فيما يُسمى «منطقة الراحة»، إذ في ارتياد المجهول مغامرة غير مضمونة العواقب، وخروج عمّا تعوّده من الأنماط والوقائع، وخبره من الأساليب الاجتماعيّة والذوقيّة والجماليّة، وأوضح ما يُجلي هذا الأمر ذاك الصراعُ الأزليّ بين الأجيال في تقبّلها للمستجدّات واختلافها في الأذواق، ما بين قديم وجديد، وقليلون هم من لا يمرّون بهذا الصراع إن كتب الله لهم العمر.

يغدو الأمر أكثر إشكاليّة، وأشد وضوحًا وإلحاحًا في فضاء العلم والإبداع بكلّ أنواعهما؛ فمع الثبات والركون إلى القديم يبدأ التراجع في الحقول والميادين، وتذوي الدهشة والإبهار وهما من أبرز سمات النجاح، فالخروج عن السائد والمألوف في مجال العلم والفنون هو من علامات التقدّم ودلائل الإبداع؛ فالمبدع متبرّم على الدوام، من الثبات منذ القدم، يقول الشاعر الجاهلي:

ما أرانا نقول إلّا مُعارًا

أو مُعادًا من قولنا مَكرورا

فقد اشتكى ولو ضمنيًّا من إعادة القول والصور والأساليب، ومثله كثيرون، ولم ينجُ منه أغلب الشعراء حتى جاء الشاعر أبو تمام الذي عدّه النقاد أوّل من خرج على عمود الشعر العربيّ، ويقصد بعمود الشعر العربيّ: طريقة العرب في نظم الشّعر من حيث الأساليب البلاغيّة والمعاني والأخيلة والميل إلى البساطة والوضوح. فكان أبو تمام من أوائل الشعراء العرب الذين حاولوا الخروج على المألوف من الصور الشعريّة، وعلى ما يسمّى في النقد القديم قرب الاستعارة المتأتي من وضوح العلاقة بين المشبّه والمشبّه به، فشِعْره كما وصفه الآمدي: لا يشبه الأوائل ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة، فكانت معانيه مبتكرة وأخيلته مستحدثة، وبديهة حاضرة متوقدة دومًا.

من عجيب بديهة أبي تمام، وإبداعه الشعريّ، ودفاعه عن منجزه الإبداعي، حكايته مع فيلسوف العرب الكنديّ حين نقد الأخير بيتًا له يمدح فيه أحمد بن المعتصم جاء فيه:

إقدامُ عمرو، في سماحة حاتم

في حلم أحنف في ذكاء إياس

حيث قال له الكنديّ ناقدًا بيته: ما صنعت شيئاً، شبّهت ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين بصعاليك العرب! ومن هؤلاء الذين ذكرت؟ وما قدرهم؟ فأطرق أبو تمام يسيراً، وقال:

لا تنكروا ضربي له من دونه

مثلًا شرودًا في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقلّ لنوره

مثلًا مــــــــــن المشــــكـــــاة والـنـبـراس

فقال الكندي بعد خروج أبي تمام من المجلس: إنّ هذا الفتى قليل العمر؛ لأنّه ينحت من قلبه، وسيموت قريباً، فكان كذلك.

إنّ الإبداع في أيّ مجالٍ يلزمه فكرٌ نابهٌ، وتجاوز دائم، وتجدّد قائم، بها جميعها تظلّ الدهشة حاضرة، ويبقى المتلقي في انتظار القادم من أفق الإبداع، ومن المهم الإشارة، هنا، إلى أنّ التجديد والتجاوز، ليسا غاية بذاتهما ولذاتهما، والإبداع لا يعني بالضرورة القطيعة مع الماضي، بل البحث فيه عن العناصر الحيّة وإعادتها إلى الواجهة أو عرضها بأسلوب مختلف، بذلك يحتفظ الإبداع بأصالته وغناه.

الإبداعُ شجاعةُ مبدعٍ في تجاوز تكرارٍ صامتٍ فاقدٍ للحيويّة والحياة، وكسر أفق توقعات المتلقي الذي ألف نمطًا معيّن، وما أجمل عبارة كاتبٍ إسبانيّ يصفُ فيها جمال الإبداع وشجاعته، والنفور من التكرار المعطّل للجمال: يا لبؤس شاعر لم يستطع أن يجمع بين كلمتين لم يسبق لهما أن اجتمعا!!