يفهم الإنسان الواعي المدرك المطلع أن الثقافة لا حدّ لها، وأن المعرفة لم تنحصر في شعب ولم تختص بأمة، ولم تكن ظاهرة في لغة من دون لغات أخرى. ومن هذا الفهم، فإن الانفتاح على الآخر هو السبيل للوصول إلى غنىً معرفيّ لا يقف عند حدود الذات نفسها، بل إنه يتجاوز إمكانات الفرد وقدراته مهما كانت تلك القدرات عالية فإنها لن تستطيع بلوغ الكمال أو الاقتراب من الحد الأدنى الذي تملكه الذاكرة الجمعية بوصفها مخزوناً معرفيّاً وبما تمثله من إرث ممتدّ عبر المسيرة التاريخية للإنسانية، فالمعرفة في جوهرها ما هي إلا نتيجة طبيعية لتراكم إرث حضاري تعاقبت فيه المعارف وتوالت فيه الثقافات. ولذلك فإن الإسلام قد دعا إلى نهل الثقافة من أي مصدر كان، طالما وجد فيها ضالته «فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى بها»، ولذلك فإن الانفتاح على الآخر، حواراً وثقافةً وفكراً وقبل ذلك قبولاً وإقبالاً، يُعبّر عن رضا يمثل الأساس المعرفي الذي يستطيع من خلاله الإنسان أن يصل إلى تبادل الأفكار التي تنطلق من فهم الذات أولاً ومن خلال هذا الفهم يمكن فهم الآخر، وكلما استطاع الإنسان أن يدرك ذاته كان أكثر قدرة على إدراك وفهم الآخر.
وديننا الإسلامي الحنيف أرسى ذلك القبول والانفتاح بتوصيف صريح أكده القرآن الكريم في خطابه المؤمنين: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، والتعارف هو المعنى الشمولي والمثال الأوسع للتقارب والتلاقي عبر الحوار والقبول بالآخر، مما يحقق الانسجام والتكامل على صعيد الأفراد والمجتمعات على حدٍّ سواء. وقد ذخرت كتب التراث بقصص معبرة شكلت إشعاعات وامضة فيما يتعلق بجانب قبول الآخر، ومن تلك القصص ما كان من الخليفة (المأمون) في حواره مع أحد المرتدين عن الإسلام وهو يقول له: «لأن أستحييكَ بحقِّ أحبَّ إليَّ من أن أقتلكّ بحقّ، ولأن أقبلك بالبراءة أحب إليَّ من أن أدفعك بالتهمة».
بهذا الوعي يتمثل الخليفة تعاليم الدين الإسلامي، من خلال فهمه لذاته، فيُقبل على الآخر محاوراً لا آمراً، ومقنعاً لا فارضاً، وبذلك استطاع أن يصل إلى وعي الرجل المرتد ويصوّب فكره، ويعود الرجل إلى جادّة الصواب. إن ما أشرنا إليه في إضاءة هذه الحادثة من تاريخنا المشرق المضي بقبول الآخر إنما هي إشارة إلى أن بوصلة الوعي التي تنطلق من الذات لا يمكن أن تضلّ اتجاهها إلى سمت الوعي لدى الآخر، ليتشكل الالتقاء بين فكرين ينتجان توافقاً ينعكس غنى معرفياً لدى الطرفين. إن الانفتاح على الآخر يزيد الثقافة على مستوى الأفراد والمجتمعات، وما كانت المعرفة لتنمو ولا الثقافة تتشعب، ولا الحضارات تؤسس، لولا هذا الإدراك لحقيقة أن وعي الإنسان لنفسه إنما هو مقدمة لوعي الآخر، وأن مرآة الوعي لدى الإنسان إنما تتراءى إشعاعات في وعي الآخرين عندنا تكون هذه النفس مرآة عاكسة ومنعكسة لا منغلقة في حدود دائرة ذاتها.
التعليقات