أسوأ أنواع التجنِّي ما تعلق بالجناية على الحقوق العامة؛ لأنه عبارةٌ عن إلحاق الضرر بالمجتمع فرداً فرداً، والجناية على الحق العام يكون بتصرفٍ جزئي محسوسٍ كبعض الجرائم على المرافق العامة، ويكون بالقول والفكر الضار، وهذا أخطر أنواع الإضرار..

لكل فردٍ من الناس حرمةٌ خاصةٌ من حقه أن تكون مصونة، وأن لا يُستطالَ عليها، وللمجتمع بمجموعه حرمةٌ عامةٌ يجب أن تحترم، وأن لا تُتخطى حدودها، وعدم جواز استباحة هذه الحُرَمِ من مظاهر تكريم الله للبشر وتفضيله لهم، ومن أهم ما يُعينُ على استتباب الأمن وحسن التعايش بين الناس تشرُّبهم ثقافةَ احترام الحقوق، والانقياد لقواعدها، واستشعار أهمية ذلك، والمسلم حقيقٌ بأن يتحلى من هذا الخلق بأرقى أنماطه؛ لأن ديننا الحنيف دينُ رأفةٍ ورحمةٍ وإنصافٍ، ولم يترك خصلة يمكن أن تحمي الحقوق إلا أوجبها أو ندب إليها، وقد حرّم انتهاك حرمة الفرد الخاصة وحرمة المجتمع العامة، ورتب على بعض تلك الانتهاكات عقوبةً تَغْلُظُ بحسب أهمية الحرمة وإفضاءِ انتهاكها إلى المفاسد العليا، أو تعطيله المصالحَ الأساسية؛ ولهذا غلَّظ عقوبة المساس بأمن الفرد والمجتمع في الضروريات الكبرى، من دينٍ ونفسٍ وعقلٍ ومالٍ وعرضٍ، وكان النيل من أيِّ واحدةٍ منها كبيرةٌ من كبائر الذنوب، ولي مع صيانة الحقوق وأدائها وقفات:

الأولى: أسوأ أنواع التجنِّي ما تعلق بالجناية على الحقوق العامة؛ لأنه عبارةٌ عن إلحاق الضرر بالمجتمع فرداً فرداً، والجناية على الحق العام يكون بتصرفٍ جزئي محسوسٍ كبعض الجرائم على المرافق العامة، ويكون بالقول والفكر الضار، وهذا أخطر أنواع الإضرار؛ لأنه منه ما يمتدُّ عبر الزمن، ويكون وزر الساعي بالضرر متصلاً على مرور الأيام، ومتعدداً بتعدد الأفراد المضرورين، وأيُّ تسببٍ قوليٍّ أو فكريٍّ في إلحاق العنت بالناس، وجرِّ الحرج إليهم يُعدُّ من هذا مصداق هذا ما ورد في حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله تعالى عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» متفقٌ عليه، وإذا كان مجرد التسبب في التشريع الشاقِّ وزراً غليظاً، فمن باب أولى ابتداعُ أفكارٍ، وانتحالُ نِحَلٍ تُبعدُ الناس عن صفاء الشريعة وسماحتها، وانتهاجُ طرقٍ ومسالك ملتويةٍ تمس بوحدة صفِّ المجتمع، وتُبعدُ المتأثر بها من معية جماعة المسلمين وإمامهم، وإنما كان هذا أخطر أنواع المساس بالحقوق؛ لأن اجتماع الكلمة صمامُ أمانٍ للمجتمع، وضمانٌ للتمتع بسائر الحقوق، فمن مسَّ به فكأنما جُمعت له حقوق الأمة في حزمةٍ واحدةٍ وضربها ضربةً قاضيةً، وسواء في هذا الوزر صاحب الكلمة الساعي في ذلك المروج له، والمتجاوب معه المصغي إليه.

الثانية: من الخطأ الفادح الاستهانة بالنيل من حرمة الشخص، والتعويل في التمادي في ذلك على أنها لا تترتب على انتهاكها عقوبةٌ بدنيةٌ؛ كبعض الغيبة والنميمة والاستخفاف وقلة المبالاة، والإصرار على هذه المظالم خطيرٌ ضارٌّ بالإنسان في معاشه ومعاده؛ لأمورٍ منها: أن من لم يُراع حرمة الناس لم يُراعوا حرمته، فيكون قد جرَّ إلى نفسه الشرَّ، فالعادةُ جاريةٌ بأن من شتَم شُتِم ومن اغتاب اُغتيب، ومنها غلظ حرمة هذه المظالم، وإذا كانت الاستهانة بالصغائر مهلكةٌ للإنسان، فما بالكم بالاستهانة بالكبائر وما قاربها من المآثم، ومنها أن الحرمة المعنوية أخت حرمة النفس والمال، فمن تطاول على الأولى وتمرَّن على ذلك، فيوشكُ أن لا يُمسك نفسه عن أخواتها، ومنها أن عدم الانتصاف من هذه المظالم في الدنيا لا يعني هوانَها، ونجاة مرتكبها بها، فلها ميزانٌ عدلٌ ستُعرضُ عليه حساباتها غداً، فيجب الابتعاد عنها، وما يُبتلى به الإنسان من الوقوع فيها فيجب تلافيه بالتحلل منها، واستعفاء المظلوم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» أخرجه البخاري.

الثالثة: كما أن التعدي على الحرمة ظلمٌ، فالتخلف عن أداء الحق الواجب والمماطلة به مذمومٌ محرمٌ أو مكروهٌ، وبَذْلُهُ واجبٌ أو مندوبٌ على حسب درجاته، والحق المطلوب بَذْلُهُ يكون عامّاً كالنصح لإمام المسلمين وعامتهم، وهو عدم الانطواء لهم على سوءٍ وغشٍّ، وهذا القدر واجبٌ، ومنه المندوب كإفشاء السلام وعيادة المريض ونحوهما، ويكون خاصّاً لأسبابٍ دائمةٍ كحق الوالدين وسائر أفراد الأسرة، وهذا منه ما هو واجبٌ ومنه ما هو مستحبٌ، وكلاهما في غاية الأهمية، كما أن من الحقوق ما هو ناشئٌ عن سببٍ معينٍ كالحقوق الناشئة عن المعاملات بين الناس، ومن المعتاد أن يكون محلَّ مشاحَّةٍ واستقصاءٍ، ولا يُحافظُ الإنسان على سمعته وعرضه ما لم يحرص على الوفاء بحقوق أهله، وحقوق من يتعامل معه، ومن عُرف بالتلاعب بها تهشمت صورته في أعين الناس.