من إيجابيات إصلاح الفرد لنفسه أنه يُغري غيره بالاقتداء به، والكشف عن المسالك الصحيحة التي سلكها إلى إنجازه، وفي هذا إشاعةٌ للفضائل، وتنبيه الغافلين عن أسباب الفضل..
يتصور بعض الناس أنه مُعفى من الإسهام في الإنجازات البشرية والمجتمعية كافة، وأن مباشرة المشاركة الفاعلة في جلب المنافع، وتشييد المحامد لا تُرتقبُ إلا من فئةٍ من الناس، وهذا تصورٌ خاطئ؛ فالإنجازات لها درجاتٌ متفاوتةٌ، ومن أدناها ما يتحقق بمجرد إصلاح المرء لنفسه وتحمله المسؤولية تجاه أسرته، وحسن تعامله مع الخلق، وإخلاصه المحبة لقادته ووطنه، وكل فرد من أفراد المجتمع مُطالبٌ بهذا القدر حسب إمكاناته وطاقته، فإنْ بَذَلَ جهده في هذا فقد شارك في الخير والمصلحة العامة، وإن انصرفت نفسه عما يلزمه الإقبال عليه، وزهد فيما يُستحسنُ منه بَذْلُ الوسع فيه، فهو مهملٌ إهمالاً لا يستحق أن يُعذر عليه، وبهذا تظهر مركزية الفرد، وأن المجتمع القوي الناجح عبارةٌ عن أفرادٍ يغلب عليهم التحلي بصفات النجاح، ويضطلع أغلبهم من ذلك بالقدر الملائم لحاله، ثم يُضيفُ إلى هذه الإيجابية الالتزامَ بواجب التلاحم ووحدة الصف، ولزوم الجماعة، فإذا اجتمعت صلابة اللبِنَةِ المتمثلة في الفرد الصالح، وتناسق البناء المتمثل في اللحمة الوطنية قَوِيَ المجتمع، وكان له دوره الحضاري الفعال، ولي مع أهمية صلاح الفرد وقفات:
الأولى: أن إدراكَ الإنسانِ لما يترتب على إصلاحه لنفسه وإصلاحه لأولاده سببٌ مُعينٌ على التشمير والجدِّ في ذلك؛ لأن مما يُهوِّن تحمل التعب، وبذل الثمن معرفة أن النتيجة عظيمة مرغوبٌ فيها، فحريٌّ بالجدِّ والمثابرة مَنْ جَمَعَ بين حافز المنفعة الشخصية الخاصة الناشئة عن كونه عضواً ناجحاً في مجتمعه، وبين حافز المصلحة العامة المتمثلة في إسهامه في رُقيِّ بلاده، وما أوفر همة من انطلق في رحلة التكون أو التربية من نيةٍ صالحةٍ استحضر فيها أنه يُطبقُ ما أمره به الشرع من تهذيب النفس وتهيئتها لما فيه صلاح معادها ومعاشها، وهو مع هذا ساعٍ فيما مآله صلاح العباد والبلاد، وتكثير سواد المنتجين الناجحين في الأمة، وهذا مقصدٌ شرعيٌّ يُثابُ عليه من استحضر فيه النية، فإذا كان تكثير الأمة من ناحية الكمِّ مقصوداً مُرغباً فيه، بقول النبي صلى الله عليه وسلم "تزوجوا الوَدُودَ الوَلُودَ فإني مكاثِرٌ بِكُمُ الأمم"، فمن باب أولى تكثيرها من ناحية الكيفِ والنجاح، وكذلك مما يُقوِّي الرغبة في استقامة الفرد ونجاحه أن يدرك أن تخلف مسيرة الأوطان الذي هو داءٌ عضالٌ من أهم أسبابه شيوعُ إخفاق الفرد، وعدم كونه أهلاً لأن يُعتمد عليه وأن يُنافَسَ به في مجالٍ من المجالات، فمن أدرك هذا قرَّر أن لا يُؤتى بلده من قِبل تقصيره.
الثانية: كثيرٌ ممن غفلوا عن مسؤوليتهم في استصلاح شؤونهم نشأت لهم عن ذلك سلبياتٌ كثيرةٌ، منها: الانشغال بالنقد الزائف الفارغ، بحيث يكون شُغْلُ أحدهم ثلب الآخرين على سبيل التقليل من جهودهم، وتحقيرها، وازدرائها حسداً وبغياً، ومثل هذا النقد مُهلكٌ لمن يتعاطاه، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ" أخرجه مسلم،
والإشكال أن من ينشغل بهذا النوع من النقد لا نجاة من شره، فهو ينبش وراء الناجح ليجد ما يقدح به في نجاحه، كما يذم نظراءه من المتقاعسين، ويُعيِّرهم بفشلهم، ويسخر منهم، ومنها أنه ينطوي على حزازاتٍ نفسيةٍ، وحقدٍ على المجتمع لا لسببٍ يقتضي ذلك، بل يرجع حقده إلى أنه يظن أن الناس أمسكوا عنه اعتباراً وتقديراً خاصاً على نحو ما يُبذلُ للناجح، وأن ما يتمتع به الناجح من المكانة إنما وُهب له محاباة، وغفل عن أن اللوم في فوات ما فاته من ذلك واقعٌ على عاتقه حين قعد عن السعي في الأسباب، وتقاعس عن تلك المرتبة التي يستحق صاحبها التقدير الخاص.
الثالثة: من إيجابيات إصلاح الفرد لنفسه أنه يُغري غيره بالاقتداء به، والكشف عن المسالك الصحيحة التي سلكها إلى إنجازه، وفي هذا إشاعةٌ للفضائل، وتنبيه الغافلين عن أسباب الفضل؛ ولهذا يكثر بحث الناس عن الوسيلة التي استعملها المنجز ليتبعوه في استعمالها، وهذا يقع في الإنجازات الدينية والدنيوية كما صنع عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» فطلع عليهم رجلٌ من الأنصار، وتكرر هذا، فتبعه عبدالله ليرى عمله ويقتدي به، فالناجح سفيرٌ يُمثل الأعمالَ الصالحةَ التي يفعلها ويروجها في الآخرين؛ ولهذا كثر إسلام الناس باطلاعهم على معاملةٍ حسنةٍ من مسلمٍ نجح في حسن السفارة للإسلام بأخلاقه، كما أن الناجح في إصلاح نفسه وسلوكه وتعامله وفي حسن إنجازه هو سفيرٌ لبلده وأهله وأصحابه الذين يرافقهم؛ لأن صلاحه دليلٌ على فضل ونبل أولئك.
التعليقات