من الراسخ في طباع العقلاء وأهل المروءة حب الوطن والشغف به وفداؤه بكل نفيس، وهذه جبلةٌ يجدها في نفسه كلُّ من كانت فطرته بعافية، فالوطن بلسمُ الروحِ، والحضنُ الدافئُ للمهموم، حتى قال بعض القدامى: "يتروَّحُ العليلُ بنسيمِ أرضهِ كما تتروَّحُ الأرضُ الجدبةُ ببلِّ المطر"..

سعدنا جميعاً بما شهدته ربوع دولتنا المباركة المملكة العربية السعودية في الأيام الماضية من احتفاءٍ وابتهاجٍ بذكرى اليوم الوطنيِّ، وما تجلَّى من خلال ذلك من الاعتزاز بهذا الوطن والتشرف بقيادته والاغتباط بمقدراته، وقد تنوعت مظاهر هذا الابتهاج، وشارك فيها أفراد المجتمع، وتجاوبت معه المؤسسات في القطاعين العامِّ والخاصِّ، فكان اسم المملكة والوطن ملء السمع والبصر في هذه الأيام كما ينبغي أن يكون، وكان علمنا الأخضر الخفاق مرفوعاً تتوشح الأشياءُ بلونه الزاهي البهيج، وكل هذا فرحُ شكرٍ وامتنانٍ لما منَّ الله به على هذه البلاد من وحدةٍ وطنيةٍ انبرمت بفضل الله تعالى على يد المغفور له جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه -، ولم تزل هذه البلاد تقطف الثمراتِ المباركةَ لهذا الصنع العظيم، بل لم يزل العالم شرقه وغربه يحمد هذا الإنجاز الذي مهد لدولةٍ كان لها التأثير الإيجابي، والدور الفعال في استقرار العالم وأمنه وتقدمه كما هو شأن الدول العظمى، ولي مع هذا الاحتفاء وقفات:

الأولى: أن هذا لا يُستغربُ من معدن العرب ومنبع الأصالة، فمن المعلوم أن من عادة العرب التي توارثتها قديماً وحديثاً تخليدَ أيامِها وتسطير إنجازاتها، والتحدث بذلك في المناسبات، ولا يقتصر ذلك على مساجلاتهم في المفاخرات ونحوها، بل هو جزءٌ لا يتجزأ مما يُلقِّنُهُ سلفهم لخلفهم من التعريف بالماضي والتعميق للهوية والتحفيز على الانتماء من خلال إبراز قيمة الذات، ولهم في ذلك مآرب تربوية ملؤها التحفيز على حماية الحمى، وإذا كانت العرب تصنع ذلك لمأثرةٍ معينةٍ، أو منقبةٍ خاصةٍ، أو انتصارٍ في معركةٍ، فمن باب أولى أن تصنعه لمناسبةِ إنجازٍ تاريخيٍّ طالما تلهفت الأيام إلى حصوله، وقد كانت الظروف والأحوال ملحةً في طلبه؛ لشدة الاحتياج إليه، لكن شاء الله العلي الحكيم أن يكون تحققه على يد هذا القائد الفذِّ الذي حققه، فحقيقٌ بكلٍّ منا أن يتصور أهمية نعمة وحدة هذا الوطن تصوراً يليق بمكانتها وعظمتها، وما انطوت وتنطوي عليه من المصالح في الماضي والحاضر والمستقبل بإذن الله تعالى وتوفيقه، ويستحضر ما تسبَّبت بدفعه من المتاعب والمحن، وينطلق من هذا التصور إلى أداء واجب الاعتراف بهذه النعمة؛ ليشكر عليها الله الذي منَّ بها علينا، وشكر الله على نعمه من أسباب دوامها وزيادتها.

الثانية: البهجة باليوم الوطني وإعلاء شأنه وسيلة ناجعة تُحقِّق بإذن الله نتائج مهمة منها إلهامُ الأجيال الوطنيةَ، وتعزيز انتمائهم لوطنهم، وتعميق تقدير القيادة في قلوبهم، ولفتُ الأنظار إلى حقهم علينا من شكر أياديهم البيضاء، وشكر المحسن واجبٌ شرعيٌّ، فمَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ لاَ يَشْكُرُ اللهَ، وفي هذا عونٌ على اللحمة الوطنية، ورصٌّ للصفوف خلف القيادة الرشيدة، وهذه هي الطريقة الصائبة والمهمة الواجبة التي إذا تعاونَّا عليها أدينا ما أمرنا الله به في كتابه العزيز وعلى لسان نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - من لزوم الجماعة والسمع والطاعة لولي الأمر، وحافظنا على مصالحنا الدينية والدنيوية، واجتنبنا الانزلاق في مهاوي القلاقل والمحن إن شاء الله تعالى، وبذلك نُفوِّتُ الفرصة على دعاة الفتن وأهل التحزب والماكرين بالمجتمعات، وما كان لأيديهم الماكرة أن تعبث بمن عبثت به من المجتمعات إلا بضربهم اللحمة الوطنية وتحريضهم المجتمع على قادته.

الثالثة: من الراسخ في طباع العقلاء وأهل المروءة حب الوطن والشغف به وفداؤه بكل نفيس، وهذه جبلةٌ يجدها في نفسه كلُّ من كانت فطرته بعافية، فالوطن بلسمُ الروحِ، والحضنُ الدافئُ للمهموم، حتى قال بعض القدامى: "يتروَّحُ العليلُ بنسيمِ أرضهِ كما تتروَّحُ الأرضُ الجدبةُ ببلِّ المطر"، وقد تحدث الأدباء عن هذا وذكروا أن الوطن لا تنتسخ أهميته في قلب الإنسان ولو تنقل بين البلدان، قال الشاعر:

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى ... وحنينُهُ أبداً لأولِّ منزلِ

وما حُفظَ في مأثور الآداب والحكم من أهمية الوطن وقوة الانتماء إليه فقد تضاعفت معانيه في عصرنا؛ لأن المواطنة في العصر الحاضر تطور مفهومها، وتضاعفت قيمتها مضاعفة كبيرة، ولم تعد مجردَ إحساسٍ يجده الوفيُّ في نفسه، بل هي ضرورةٌ من ضروريات العصر، وقيام المجتمع بها حق القيام وسيلة لنيل كل الآمال التي تتطلع لها الشعوب، والمواطنة تقتضي وجود حقوقٍ للمواطن وحقوقٍ عليه، فحقُّ المواطن على وطنه جلب المصلحة له ودرء المفسدة عنه، وكل الأنظمة عبارةٌ عن شرح هذا الحق، وحقُّ الوطن على المواطن الإخلاص له وحبه والاستعداد للتضحية من أجله، واحترام أنظمته والاعتزاز به وبرموزه، ومقتضى الإنصاف بذل ما عليك من الحق ما دمت تطالب بما لك من الحق.