استعمال البصيرة وسيلة لسلوك الإنسان سبيلَ السلامة في دينه ومعاشه، فكل الضروريات الخمس الشاملة لمصالح الدارين لا تتهيأ لمن تصرَّف خارج ما تُمليه البصيرة السليمة؛ إذ هي مما يهتدي به الإنسان إلى ما يُرضي عنه ربه..

من حكمة الله تعالى ربط المسبَّبَاتِ بأسبابها، ولو شاء لانساقت كل الرغبات إلى المخلوقات واندفعت عنهم المكدِّرات بلا سببٍ يُذكر، ولكنه سبحانه أجرى الأمور على أسبابها، وشرع للمكلفين استعمال الأسباب المأذون فيها لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، وتتضاعف أهمية الأخذ بالسبب كلما كان أوسع دائرة، وأرجى لإفضائه إلى تحقق المصالح العليا والعامة، فمثله لا يُعذرُ تاركه ولا ينجو من الندم مُهمِلُهُ، ومن أهم الأسباب المحققة للمصلحة والدافعة للمفسدة - بإذن الله تعالى - استعمال الإنسان بصيرته، فلا يكون الفرد محافظاً على ما لا غنى له عنه من دينه ودنياه إلا بواسطة النظر بعين البصيرة، ولا يكون للمرء الدور المنشود في نفع مجتمعه والإسهام في منافع العباد والبلاد إلا إذا استعان في سلوك دربه بنور بصيرته، وباستعمال البصيرة وإهمالها يقعُ التفاوت الشديد الذي نلحظه بين الميمون النقيبة المبارك على نفسه وعلى غيره، وبين أهل النكد الجالبين للشرور الضارين بأنفسهم وبمن سواهم.. ولي مع أهمية إعمال البصيرة وتنميتها وقفات:

الأولى: البصيرة كما عرفها بعض المفسرين: "نور القلب الذي يستبصر به، كما أن البصر نور العين الذي تبصر به"، لكن شتان بينهما فتعطل البصيرة هي المعضلة الحقيقية، والزمانة المتفاقمة، كما قال تعالى: (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)، بل إن انطفاء نور البصيرة بالكلية بمثابة الموت، واتِّقاده بمثابة الحياة، ومصداق ذلك قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - تعليقاً على الآية: "فالنور الذي يمشي به في الناس هو البينة والبصيرة"، والبصيرة من الكرامات الممنوحة للإنسان، وأعلاها الدين القيم الذي هو الفطرة السليمة التي فطر الله عليها بني آدم، قال تعالى: {فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيها)، وفي إضافته تعالى هذه الفطرة إلى نفسه تشريفٌ لها وثناءٌ عليها، فعلى من فُطر عليها وهُيئ للتفرقة بين المضارّ والمنافع أن لا يهمل ما مُنِحَ من الكرامةِ والتمييزِ، وأن يعيَ أنها من الفروق بين البشر وما سُخر لهم من أنواع المخلوقات الأخرى، ولا يقتصر المطلوب على عدم إطفاء البصيرة، بل المطلوب تنميتها والسعي في استدامة أنوارها وتقويتها، وذلك بالانقياد للأمر الإلهي، والانتهاء عما نهى عنه بقدر الوسع والطاقة، وصحبة الأخيار والبعد عن الشبهات ولزوم جماعة المسلمين، والالتزام بالبقاء تحت لواء ولي أمرهم؛ فالجماعة والإمام حصنٌ منيعٌ، وقافلةٌ مباركةٌ ومن سار وسط القافلة الموثوقة أمن الضياع بإذن الله تعالى.

الثانية: استعمال البصيرة وسيلة لسلوك الإنسان سبيلَ السلامة في دينه ومعاشه، فكل الضروريات الخمس الشاملة لمصالح الدارين لا تتهيأ لمن تصرَّف خارج ما تُمليه البصيرة السليمة؛ إذ هي مما يهتدي به الإنسان إلى ما يُرضي عنه ربه، فيفرق بين الحق والباطل، ولا يكفي مجرد الفرق بين الحق والباطل، بل يجب الاستقامة على ذلك واستدامته مدى الحياة، وذلك محتاجٌ إلى البصيرة، فمن ظن أنه يعبد الله تعالى على غير هدى واستنارة لم يأمن الوقوع في مُضلَّلات البدع التي تذهب به بعيداً عن الصراط المستقيم، ولا يتفادى هذه المضلات إلا بنوعِ بصيرةٍ من علمٍ أو اقتداءٍ بثقةٍ من العلماء الربانيين، وبالبصيرة يصون نفسه وعرضه وعقله وأملاكه من بوائق المتربصين وكيد الكائدين وحيل الماكرين من أهل الطمع والجشع، وبها يكبح جماح القلب واللسان والجوارح عن التسرُّع إلى ما ظاهره نفعٌ وباطنه ضررٌ، وبها يُميِّزُ بين من يستحق الصداقة التي تسكن النفوس إلى من بذلت له، وبين المتلون الذي لا يُوثقُ به ولا ينبغي الركون إليه؛ فالاستعانة بالبصيرة على الوجه المطلوب من علامة توفيق الله تعالى لعبده، وهو الحدُّ الفاصلُ بين المهتدي والزائغ، وبين الحازم الفطن والمهمل المغفَّل.

الثالثة: قوة البصيرة ونفاذها وسرعة البديهة الصائبة فيها خصالٌ إذا اجتمعت أخذت - إن شاء الله تعالى - بيد صاحبها وكانت له عصمةً في المواقف المزلقة، التي يشتبه فيها المحِق والمبطلُ، ويغترُّ فيها ناقص البصيرة بالمظاهر الزائفة، والمتبصر المستضيء بنور القلب يحمي دينه من تلك الشبهات، ويُعِدُّ عُدةً تكون له جُنَّةً واقيةً من التأثر بدعاة الضلالة وسماسرة الفتن، وقد ذكر أهل الأخبار أن التابعي المشهور أبا العالية حُكي له عن بعض الخوارج أنه قال: "اللهم إن كان ما نحن فيه حقاً فأرنا آية فارتفع سقف البيت، وساق له بعض الخوارج هذه القصة ليُعجِّبه من الآية المزعومة، ويُرغِّبَه في مذهب القوم، فقال أبو العالية: "كاد الخسف ينزل بهم، ثم أدركتهم نَظِرَةُ الله"، فرسوخ بصيرة هذا العالم ويقينه بقبح وشناعة شذوذ الخوارج عن جماعة المسلمين وإمامهم كان أوثق عنده من ارتفاع السقوف وزوال الأبنية ثم رجوعها وغير ذلك من الخوارق التي هي استدراجٌ في مثل هذا المقام.