تطور متتبعو العورات في أساليبهم كما تطور نشر العورات بالتقنيات الحديثة من فيديو وتصوير وتسجيل صوت، فالعاقل سليم الفطرة حين يجد من هذه العورات مقطعًا أو تسجيلاً فلا يشبع فضوله في تتبع ذلك ليعرف أهي حقيقة أم ذكاء اصطناعي؛ لأنها في نهاية المطاف لو كانت حقيقة لكنت متتبعًا للعورات..
الحقيقة، كلمة تجذب السمع وتشرئب لمعرفتها الأفهام، في أي مسلك كانت؛ لأنها الصورة التي توافق مراد النفوس وتقنعها، سواءً كانت مقبولة أو مرفوضة، ولكن قد يجهل الناس ما الحقيقة الممنوع البحث عنها؟ إذ ليس كل حقيقة يجب تتبعها ونشرها وإثباتها، بل هناك حقائق لا يجوز ولا ينبغي لمن سمعها أن يشبع فضوله في معرفتها، أصدق هي أم كذب؟ من ذلك وهو بيت القصيد في هذا المقال "عورات الناس" فليس كل ما تسمعه عن عورات الناس وأخطائهم وهفواتهم وزلاتهم هي من الأكاذيب، بل هذه هي طبيعة الإنسان التي ركبه الله عليها، كما في الأثر " كل بني آدام خطاء" فالأخطاء والزلات والهفوات مرافقة لكل شخص بحسب قربه وبعده عن الاستجابة لشهوات ونزوات نفسه، ولكن هناك ثابت شرعي إنساني عقلي، وهو منع تتبع هذه العورات وإن كانت حقائق، أما إن لم تكن حقيقة فهي من الزور والبهت الذي هو أشد من تتبع العورات، وقد أسس هذا الثابت وأكد عظمته وحرمته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلـم وهو يخاطب قومًا امتهنوا تتبع العورات في زمنه صلى الله عليه وآله وسلـم، وخطابه لهم هو خطاب لكل من سلك سلوكهم، إذ يقول: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم" وليس ذلك إلا صونًا لخصوصيات المجتمع والأسر والأفراد، بل يزيد بيانًا صلى الله عليه وآله وسلـم لخطورة ذلك بقوله: "إنك إن تتبعت عورات المسلمين أفسدتهم" وهذا جريًا على منع نشر وتتبع العورات مهما كانت في نظر من علمها حقيقة، ومهما كانت مستعظمة في نظر متتبعها متى لم يتعد فاعلها إلى أذية الآخرين وانتهاك حقوقهم.
ولنا في أحكام الشرع خير قدوة، فإن نظرنا مثلاً إلى تحريم الزنا وجدنا الأدلة الربانية والقوارع والزواجر القرآنية واضحة وشديدة في ذلك وتأكيد العقوبة الأخروية على ذلك، ولكن في المقابل جاء التشديد والوعيد على حرمة القذف أو تتبع عورات من يقع في ذلك ووجوب ستره وتحريم فضحه! بل جعل عقوبة الجلد على من اتهم مسلمًا بذلك وكان ناقص الإثبات وليس فقط كاذبًا، فإن الشهادة على الزنا تكون أربعة شهود تتطابق شهادتهم، لكن حين تختلف أو تنقص فالجلد في ظهور من شهد وقذف وإن كانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم لم يقولوا غير الحقيقة، لكن هذه الحقيقة كانت محاطة بسور يمنع من الاقتراب منها، فاقتحم هؤلاء هذا السور إلى إثبات ما كان لهم في ستره أجر عظيم وخلق كريم. ومن هنا جاء قوله تبارك وتعالى في هؤلاء: {فأولئك عند الله هم الكاذبون}. فهم عند الله كذبة شرعاً، وإن كانوا صادقين واقعاً، فتأمل.
وفي الحديث الصحيح "من ستر مسلمًا ستره الله" بل جاء في الحديث "اجْتَنِبوا هذه القاذوراتِ التي نَهى الله عنها، فمَن أَلَمَّ فلْيَستَتِرْ بسِترِ اللهِ، ولْيَتُبْ إلى اللهِ" فهذه القاذورات هي العورات الشخصية التي لا ينبغي لعاقل إشغال نفسه بها فضلاً عن مسلم، وقد تطور متتبعو العورات في أساليبهم كما تطور نشر العورات بالتقنيات الحديثة من فيديو وتصوير وتسجيل صوت، فالعاقل سليم الفطرة حين يجد من هذه العورات مقطعًا أو تسجيلاً فلا يشبع فضوله في تتبع ذلك ليعرف أهي حقيقة أم ذكاء اصطناعي؛ لأنها في نهاية المطاف لو كانت حقيقة لكنت متتبعًا للعورات وأفسدت بها مسلمًا وبنيت على ذلك أحكامًا من سوء الظنون وقطع العلاقات ونشر الفضائح باسم نشر الحقيقة! والحقيقة هي أنك تنشر الفضيحة ومشيع للفاحشة، وقد أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلـم {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
ولعل من المناسب التذكير بأن المرء معرض لمثل هذا، ولا ريب أنه يحب أن يستر ويخشى الافتضاح، فليحب للناس ما يحبه لنفسه، ليكمل إيمانه، ويسلم عرضه، وقد قيل قديماً:
إذا رمت أن تحيا سليماً من الأذى
ودينك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسن
وعيناك إن أبدت لك معايبا
فدعها وقل يا عين للناس أعين
هذا، والله من وراء القصد.
التعليقات