متع الحياة الرائجة مع تطور مفردات الواقع والحياة، جعلت الآباء والأمهات يهرولون إليها بذاتية مفرطة، متناسين ما بين أيديهم من كنوز المستقبل فلذات أكبادهم..

إننا حينما ننشئ معماراً هندسياً -لا تكون دعائمه على فراغ- مزيناً ومزركشاً بألوان وأصباغ ملونة، بل توضع له أعمدة وقواعد بنسب هندسية يعلمها مهندسو التشييد والمعمار على مر العصور.

  إن كل أمر من أمور حياتنا يحتاج إلى ذلك المعمار الهندسي بمعايير محكمة في كل شيء، طبقاً لقياس هندسي معماري مهما تنوعت الأمور ومهما اختلفت الأبنية. فلا يصح أن تُبنى أمور حياة الفرد منا على نظم عشوائية هشة وعلى أقوال تخلو من الأفعال فالفرد منا ما هو سوى كلمة، وكلمة تعضد بالفعل وشرف محسوب ومهم كلبنة من لبنات مقومات الشخصية، فضعفها يأخذ الأبنية إلى الانهيار مع أول هزة تحدث.

إن مع ما نلاحظه من تحولات المناخ وتقلب الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاحتباس الحراري المشهود على وجه البسيطة، ومن كثرة الهزات الأرضية والبراكين واشتعال الحرائق في كل حدب وصوب والصراعات والحروب والأوبئة التي قد تدمر الأخضر واليابس، والتي تركت خلفها ذلك الجفاف الذي نراه ونعيشه في جميع البيئات العالمية والإقليمية، هو ما انعكس على ذواتنا نحن وعلى سلوك الشخصية على حين غرة، فخلف فينا نوع من التصحر في كل جوانب المشاعر والوجدان، بالحلم بالثراء السريع، مما يلقى بظلاله على النفس البشرية من جفاف وتصحر مشاعر وعواطف.

نحن نعيش دهراً كاملاً كل يوم، جراء هذه الظاهرة المقيتة التي تجتاح كل بيت، زلازل عنيفة لا تقوى عليها أنفس الأطفال الصغار، الذين يرون ويسمعون في خوف وترقب هذه الخلافات الأسرية، وبطبيعة الحال هم من تتدمر بنياتهم الشخصية، فنساهم في خلق جيل مشوه نفسياً واجتماعياً ووجدانياً وكل شيء نحلم أن يكونوا عليه!

من منا ينكر تأثير المحيط البيئي في سلوك الشخصية وفي مقوماتها الفعلية؟! فلم يُنتج ذلك الطفح العالمي المتوتر سوى نوع من الاغتراب الذي يجعل الإنسان سلعة في سوق رأس المال العالمي، الذي يخضع كل شيء فيه لسلطة المال، وهو ما ألحق الضرر -كانعكاس مرير- على الواقع الأسري، إنه ذلك الأثر البالغ في تنشئة جيل جديد مشوه البنية مهما بلغت الدولة من قصارى جهدها في تعليمه وتثقيفه، ومهما أنفق الأهل على دراسته وتنشئته!

لماذا لا نستحضر ذواتنا، ونفكر في أبنائنا؟ لماذا هذه الأنانية والذاتية الفجة التي أصبحت سمة هذا العصر؟! «الأنانية أو الأنوية أو الغرورية أو الاستعلاء هي النزعة لتبني آراء إيجابية حول الذات وانتفاخها والخضوع لرغباتها وأهوائها، وتعزيزها. ومضمنا الشخص عادةً رأيًا محابيًا للذات بشأن السمات والأهمية الذاتية، سواء من الناحية العقلية أو البدنية أو الاجتماعية أو غيرها، والشخص الذاتي غالباً ما يكون لديه شعور غامر بمركزية الذات: أي بسماته الشخصية، وتعني الغرورية أن يجعل الإنسان من ذاته مركزًا لعالمه دون الاهتمام بالآخرين، بما في ذلك من يحبهم أو يعتبرهم «مقربين»، إلا في الإطار الذي يحدده هذا الشخص» وهذا هو لب تضارع الرغبات بين الأزواج مما يتحتم على كل منهم إيثار الآخر على نفسه وإيثار أبنائه على نفسه!

فلماذا نقول ونردد أننا نحب أبناءنا، بينما تغلب علينا قوة وسطوة النفس التي لا تبالي سوى في متعتها الشخصية فقط دون سواها؟! فمتع الحياة الرائجة مع تطور مفردات الواقع والحياة، جعلت الآباء والأمهات يهرولون إليها بذاتية مفرطة، متناسين ما بين أيديهم من كنوز المستقبل فلذات أكبادهم!، فانتشر الطلاق في كل بيت أو ما يسمى (الطلاق الصامت) فتحيا الأسرة كلها في دوائر مغلقة غير متقاطعة وهذه هي ظاهرة الأنانية المقيتة!

إن الشخصية العربية بسماتها -التي هي مقوماتها- والتي أهمها سمة الإيثار، في طريقها إلى التدهور، فهذه الأنانية -والتي هي آفة الشخصية- تنتقل طواعية من الآباء إلى الأبناء، فلا عجب إن رأينا دور العجرة تكتظ بالآباء وبالأمهات فلا يهم، فنحن من صنع في أولادنا هذه الأنانية وتلك الذاتية مسبقاً، وتلك الهرولة خلف متع الحياة، ذلك لأن مفهوم العيب (المنقود) والذي كان يقض مضاجع أجدادنا أصبح أمراً مألوفاً بأن يقذف الولد بوالديه في دور العجزة وهذا هو تأثير الأنانية واللهاث خلف متع مقيتة زائفة، في نوع من وأد القيم التي تأثرت بها الشخصية جراء هذا الطفح العالمي و(شخابيط) الألوان على وجه الشخصية العربية، وعلى وجه جيل قادم يهدده الصراع الأسري وأنانية الآباء والأمهات.

إن بلادنا تسعى إلى نهضة عظمى على كل الصُعد وفي كل المحاور، لخلق دولة جديدة تقف في مصاف الدول العظمى برؤية صاحب السمو ولي العهد محمد بن سلمان -حفظه الله- وبرؤية 2030 في سباق محموم مع الزمن، لكن عثرات الشخصية وتقلباتها وفقاً لكل ما ذكرناه سلفاً، من اضطراب الواقع الأسري وظاهرة الطلاق المعلن والصامت، قد تهيل التراب على كل تقدم منشود، ذلك لأن بنية الشخصية في الأسرة ومن ثم الطفل، هي بنية العماد الأصل والأقوَم والناهض لهذه النهضة قبل كل شيء، ولذلك يجب أن تدخل استراتيجية بنية الأسرة ضمن رؤية 2030 لأنها عصبها الأول.