ارتجال التفسيرات قد ينشأ عن خفةٍ وضعفٍ وعجلةٍ في شخصية الإنسان فلا يُمكنُهُ أن يُقابل المواقف بما تحتاج إليه من أناةٍ وبصيرةٍ، ومثل هذا يمكن أن يتعرَّفَ من حوله على مشكلته ويُعالجوها قدر المستطاع، ومن شأنه أن يستجيب للعلاج؛ لأن الأخلاق تقبل التهذيب والمعالجة، لكن الإشكال فيمن لا يُعاني من ضعفٍ وقصورٍ، لكنه يتعمد تفسير الأمور بما يهواه متجافياً عن الإنصاف والعدل..

من شأن كثيرٍ من الناس أن لا يستوعبوا كثيراً مما يسمعونه وما يرونه، إما لأن المتلقي تنقصه أشياء مما يتوقف عليه الاستيعاب، أو لكون المرئي مسبَّباً عن أسبابٍ لم يعهدها الرائي ولا شيء يدعو إلى أن تُشرح له؛ إذ ليس من حقه أن يشرح له الناس ظروفهم، أو لكون المسموع دقيق المأخذ، فيتعامل معه المتلقي تعاملاً لا يخلو من نوع سطحيةٍ، أو لكون المتلقي معمور الذهن بأهواءٍ مسيطرةٍ عليه، وغير ذلك من الأسباب الصارفة عن الفهم الصحيح، وكل من هذه الموانع له علاجٌ ناجعٌ إذا تعاطاه الإنسان زال عنه الوهم إن شاء الله تعالى، والمعضلة الكبرى أن يعاند في تعاطيه، وأن يتظاهر بأنه لا يحتاج إلى حلول؛ إذ لا مشكلة عنده، فيفضي به ذلك إلى أن يتولى بنفسه تفسير كل ما يلحظه من مظهرٍ وما يسمعه من كلامٍ شرعيٍّ وغيره، منطلقاً في تفسيراته الجاهزة بكل اندفاعٍ وعفويةٍ غير بريئة، وبهذا يُصابُ بارتفاع شهية التفسير، والتطفل فيما لا يعنيه الكلامُ فيه، ولي مع شهية التفسير وقفات:

الأولى: من انفتحت فيه شهية التفسير الارتجالية تضرر في دينه وعلاقاته؛ أما تضرره في دينه فلأنه يتحمل تبعات المظالم التي يكيلها للناس جزافاً، ويبوء بإثم التهم التي يُلصقها بالأبرياء، والإذايات المتنوعة التي يلحقها بالناس، وأما تضرره في علاقاته؛ فلأن من كان هذا دأبه لا يكاد تسلم له علاقةٌ أو تبقى له صداقةٌ، وهذا إضراره بنفسه، أما إضراره بالناس فحدِّث عنه ولا حرج، لكن تضرر الناس بمن يتشهَّى في تفسير أقوالهم وأفعالهم اعتباطاً أخف من تضررهم ممن يتشهَّى في تفسير النصوص الشرعية على حسب فهمه المجرد، ولا يلتفت إلى أقوال العلماء الراسخين، وبالشهية الجامحة في تفسير النصوص أقدم أهل الأهواء والبدع على ليِّ النصوص وحملها على ما يُوافقُ أهواءهم، من دون وضع أدنى اعتبارٍ لأهل العلم الربانيين، ولا مراعاة لموقف جماعة المسلمين وإمامتهم، فنجد من ينحو هذا المنحى المعوج يحتكر لنفسه الصواب بفهمه، ويزعم أن من خالفه فهو الزائغ.

الثانية: ملتمس الحق إذا خفي عليه سببُ أمرٍ يراه من أخيه أو يسمعه منه، فله طريقٌ واضحٌ لإزالة هذا الخفاء، وهو السؤال عن سبب هذا وملابساته والمقصود منه، فالواجب عليه أن يستفسر قبل أن يعترض أو يُنكر، وقبل أن يتعاطى مع أيِّ موقفٍ مشكلٍ، وأسباب تصرفات الإنسان كثيرةٌ منها ما هو بحد ذاته صحيحٌ لكن لا حاجة إلى تبيينه لمن لم يسأل عنه، ولو سُئل عنه فمن حق المسؤول أن يطويَ خبره عن غير خواصه، ومن الغايات والمقاصد ما ظنه الفاعل دافعاً مشروعاً، فأقدم عليه بتأويلٍ خاطئٍ واجتهادٍ غير موفق، ولم يُبيِّتْ به السوء، ومن حقه في مثل هذا أن يُستجلى دافعُهُ ويُبيَّنَ له ما وقع فيه من الخلل، وأن لا يُشنَّعَ عليه كما يُشنَّعُ على مُريد الشرِّ، ولو تبين للإنسان أن أخاه قارف خطأ لا غبار عليه فمن اللائق به أن يسأله عن مقصده، ثم يعذره إن بيَّن له مغزاه المتوهَّمَ، والذي سلك إليه طريقاً غير ملائمة، وهذه هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، يسأل أحدهم عما حمله على صنيعٍ مُعيَّنٍ يستدعي التقويم والإرشاد، فيُقوِّمُهُ برفقٍ وأناةٍ وحكمةٍ. 

الثالثة: ارتجال التفسيرات قد ينشأ عن خفةٍ وضعفٍ وعجلةٍ في شخصية الإنسان فلا يُمكنُهُ أن يُقابل المواقف بما تحتاج إليه من أناةٍ وبصيرةٍ، ومثل هذا يمكن أن يتعرَّفَ من حوله على مشكلته ويُعالجوها قدر المستطاع، ومن شأنه أن يستجيب للعلاج؛ لأن الأخلاق تقبل التهذيب والمعالجة، لكن الإشكال فيمن لا يُعاني من ضعفٍ وقصورٍ، لكنه يتعمد تفسير الأمور بما يهواه متجافياً عن الإنصاف والعدل، فيصير على الناس بلاءً عظيماً في جميع شؤونهم، فلا يكاد من جالسه يسلم من شره، وأما مخالطوه فلا شك أنهم في معاناةٍ ونكدٍ جرَّاء نتائج فُهُومِهِ الجاهزة التي لا تُنجي منها البريءَ براءتُه، ولا تنفع فيها المتحفظَ تحفظاتُهُ، ولا ينفكُّ منها من يلتزم بالحيطة والحذر، وليت تلك التفسيرات اقتصرت على التصرفات الملتوية أو المحتملة لما لا ينبغي، لكنها -مع الأسف- تأتي على حسب مزاج صاحبها، فَتَنصَبُّ كثيراً على أمورٍ ظاهرةٍ جليّةٍ لا يُعقلُ أن يستنبط منها الإنسان ما لا ينبغي أو يسوء، ولم يؤولها بالسوء هذا المتشهي إلا لاستحكام الهوى في نفسه، والهوى إذا استحكم في النفس لم تلتفت إلى الحقيقة إلا بقدر ما يُماشي منها هواها، فإن افترق طريق الصواب ومسلك الهوى لم يتردد صاحبه في ترك الصواب.